استشراف المستقبل في ثلاث قصص قصيرة

ثقافة 2019/10/08
...

د. صبري مسلم حمادي
 
 إنّ سيل القصص التي ألفت زمن الحرب وعلى مدى أعوامها الثمانية جعل كتاب القصص الثلاث يبحثون عن أسلوب مختلف في التناول، فكانت الأسطورة هي الوعاء الأنسب لمضامينهم، ويبدو هذا من اختيار عنوان القصة (زو العصفور الصاعقة)، مما يدل على وعي القاص وتعمده اختيار هذه الأجواء المفعمة بالإيحاء والعمق من جانب ومن الجانب الآخر فإنّ القاص محمود جنداري تعمّد أن يغرق قصّته بحشد من الرموز كي لا ينتبه رقباء السلطة إلى أنه يقصد السلطة آنذاك.
وتنفرد قصة محمود جنداري بأنّها تشتمل على بعد واحد هو البعد الأسطوري، إذ يكاد القاص يغفل عمدا البعد الواقعي، متخذا من البعد الرمزي بديلا، إذ ذاق مرارة السجن الرهيب آنذاك
 وإذا شئنا أن نستوحي الرموز المشتبكة المتداخلة في هذه القصة فإنّنا سنجد منها الكثير من الرموز، فما «عصر انصهار الرصاص والبخار والهواء والفسق الدموي الليلي والشمس التي تظهر دوماً وهي تنزف دما»(17)، إلّا إشارة إلى الوطن بعد حرب الثمانية أعوام. ويتأكد المعنى ذاته في موضع آخر في القصة «يوم قامت مدن من محفات البخار وأشرعة الضوء والرصاص السائل الأبيض، تفحص كبير الآلهة بنظرات وثابة فراغ العالم وهمس لمن حوله: إنّ ما هو آت أعظم، إن ما هو آت أعظم.»(18) وما كبير الآلهة هذا إلّا رأس السلطة الغبيّة آنذاك الذي واصل نهجه العدائي في حربه الخليجيّة الثانية التي لم يشهدها القاص محمود جنداري إذ وافاه الأجل، لكنّه رحمه الله حدسها بحسّه المرهف وتنبّأ بها اعتمادا على عقلية رأس السلطة آنذاك وفلسفته المنحرفة التي أطاحت بفرص التطور
 والنهوض.
 ولا ينطبق ما ذكرناه على قصتي محمد خضير وجهاد مجيد، إذ تبنى القصتان على بعدين أحدهما: البعد الواقعي القائم على أساس مدينة معاصرة فيها دار للسينما ومسرح ومصح  ... (19) ، لدى محمد خضير من جانب، والبعد الأسطوري القائم على المدينة الخيالية التي تبدو وكأنها مطلقة من خلال حشد الأمكنة والأزمنة الواردة في القصة من الجانب الآخر. وينسحب ما ذكرناه على قصة جهاد مجيد إذ يعطي لقصته بعدين أحدهما البعد الواقعي من خلال حياة الراوي في القصة فهو يعيش حياة اعتيادية في مدينته وسط آل خراقة الذين هم رمز للجنس البشري كله والبعد الآخر هو البعد الأسطوري المعتمد على خيال القاص، إذ أن مدينته لا وجود لها إلّا في خياله، وهي إنما ترمز لحلمه الخاص الذي يطمح إلى أن يحققه  متمثلا بوطنه المغلوب على أمره تحت وهم القائد الضرورة
 آنذاك.  ويختلف أسلوب تناول الشخصية في القصص الثلاث، فقد رسم محمد خضير شخصية راوٍ أساس بدا وكأنّه القاص نفسه ثم أردفه براوٍ آخر هو بطل القصة لأن الراوي الثاني إنما يمثل فكرة وقيمة من قيم الأصالة والبناء، وقد اختاره القاص محمد خضير ممثلاً للإنسان العراقي بكل حضاراته وماضيه التراثي وشخصيته المركبة. ولكن جهاد مجيد وحّد بين شخصية الراوي والبطل وبدا الجد ظلا للبطل ومحفزا له في رحلته صوب المغامرة والبحث عن المدينة والحلم. وقد حرص القاصان محمد خضير وجهاد مجيد على إعطاء سمات واقعية للشخصيات الرئيسة في قصتيهما مع الافادة من شخصيات كثيرة ذات طابع أسطوري. وينفرد محمود جنداري في أنه نقل لنا شخصياته من مرحلة تعدد الآلهة، لذلك فإنّ شخصياته معظمها من الآلهة، ويمكن القول بأنّ آنو رب الأرباب لدى السومريين كان بطل القصة، إذ بدأ القاص به وانتهى به، وكان الإنسان مغلوباً على أمره طوال هذه القصة، ومنذ الافتراضات العلمية للأطوار التي عاشها الإنسان ومرورا بكل الحضارات القديمة للعالم وحتى العصر القائم، وهو ما يمثل الإنسان العراقي المغلوب على أمره آنذاك ولا سيما المجند الذي أرسل إلى جبهات القتال قهرا
 وقسرا.  وتنفرد قصة محمد خضير بحوار متنوع يؤدي دور الكشف عن طبيعة شخصياته، ومن ذلك حوار بطله مع حبيبته، وهو ما يكشف عن جانب من بناء قصته المستمد من أحد مشاهد أسطورة جلجامش، وربما لجأ إلى الحوار الداخلي للغرض نفسه (20)، ولا ينطبق هذا على حوار قصتي جهاد مجيد ومحمود جنداري، إذ لا نجد سوى حوار قصير يمكن الاستغناء عنه في القصتين المذكورتين، ويبدو أن القصتين وجدتا في بقية الأدوات الفنية ما يعوض عن الحوار بوصفه أداة فنية مهمة ولكنه مما يمكن التخفيف منه في إطار البناء الفني المكثف للقصة
 القصيرة .
(17)    زو – العصفور الصاعقة ، ص 136 .
(18)    ينظر : رؤيا البرج ، ص 136 .
(19)    ينظر : رؤيا البرج ، ص142 .
(20)    رؤيا البرج ، ص140 .