الفكرة القديمة في موضوع جديد

ثقافة 2019/10/11
...

عدي العبادي
 
يتحدث  الشاعر الراحل إبراهيم الخياط في قصيدة “افلاطونيا”عن صور خارجية تحيط به كالملوك والملائكة والقطا لكنه يضيف لها مهرته الجانوسية كي يربط بين أشياء في عالمه الخارجي وانفعالاته الشخصية وهذه الرائية الشعرية تدل على قدرة المبدع في مزج ما حوله بحالته التي مرَّ بها فيكون لنا نصاً حداثوياً يحمل الكثير من المفردات:
بنسائم النسرين الغنج
أو بميس أساور الياسمين
فتنساب - رهوا-
فتنة عاشقات الأحياء الوطيئة
لم يضع الشاعر إبراهيم الخياط في نصه “أفلاطونيا” اهتمامه على مركزية أو موضوعية، بل جعله عبارة عن مجموعة أطروحات تخلف، وظل يتنقل ويخلق عدة نصوص في داخل النص الواحد، ولا غرابة، ففي قصيدة النثر يمكن أنْ يكون كل بيت عبارة عن نص مستقل بذاته بل حتى العنوان يمكن أن يكون 
نصاً:
أرى الأمطار تثرثر
على قارعة العناقيد
وعلى مائدة العصافير
وعلى طارقة النوى
تتضح السيميائيَّة الشعريَّة في نص أفلاطونيا بكثرة المفردات ذات الدلالة عامة، وهذا المقطع خاصة، فالشاعر يرى أنَّ للعصافير مائدة وقد أخرجها من وظيفتها الطبيعيَّة هي والأمطار التي تثرثر، وقد ربط كل ما وظفه الى الانتهاء بنفسه، وليس بالضرورة أنْ يتكلم الشاعر عن فكرة جديدة كما يقول رائد الحداثة في مصر الناقد الكبير جابر عصفور: بل يكفي أنْ يصوغ لنا الفكرة القديمة بطريقة جديدة، وهذا ما نجده في نص الخياط الذي جعل اشتغاله على نفسه لكنه جدد بمنتجه الإبداعي الذي حسم كعمل له: موشحاتٍ بالتعاويذ الباهرة
وبقارةٍ من الزنابق السكرى
وفي صمت السواقي الضنينة
من جنة غضاضتك
يا اكتمال الزنجبيل
أشتعل ولا حَول لي ولا طـَول.
إنَّ جمالية “أفلاطونيا” تكمن بكثرة المعاني وتحررها من فضائها وهذا يعود لقدرة الخيال عند الشاعر ويعدُّ الخيال عنصراً جمالياً مهماً في كل مادة إبداعية سواءً كانت قصة أو شعراً أو رواية الخ، وأعتقد هو أهم جانب على اعتبار انه يميز المبدع عن سواه، فمن يملك الخيال غير المبدع الذي يحوله ويتحكم به، وفي ما مضى كان الشاعر مقيداً ليس بالوزن والقافية بل حتى الخيال، فلا يمكن ان يقول شيئاً منافياً للعقل، وكانت الإمكانيات محدودة، فالذي يعيش في الصحراء لا يستطيع أنْ يعبر عن الحضارة، لأنه لا يملك روح التمدن والانسان المدني، ولا يقدر أن يصف ما في الصحراء لعدم معرفته بكل جوانبها..
إنَّ كل هذا البوح الداخلي والنزف لكل هذه الكلمات جعلنا نقف أمام نص نثري حداثوي لشاعر ثمانيني صاحب تجربة طويلة، وبعد مراجعتي للنص وقراءته بدقة استنتجت أنَّ هناك عدة صور في مخيلة الشاعر، واقد استطاع أنْ يربط بينها ويكون لنا أفلاطونياً، منطلقاً من داخله، وهذا ما يدل على علاقة قوية بين الشاعر وما حوله، وعلاقة بينه وبين عالمه الخارجي. إنَّ تشكيل كل هذه الصور ليس بالسهولة بل بحاجة لمخيلة خصبة وتواصل مع العوالم وإحساس بأشياء كما فعلت الشاعرة نازك الملائكة في قصيدة النهر العاشق حين وصفت كارثة الفيضان فحولت بمخايلتها ذلك النهر الهائج على عاشق جاء يزور القرى التي يرويها ووصفت هجومه عبارة عن
احتضان.