السكن في منازل اللغة ومُساءلة الاسم للاسم

ثقافة 2019/10/11
...

د. رسول محمد رسول
 
بعد أن فرغ الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا (1930 – 2004) من نشر كتابه (في علم الكتابة) سنة 1967، ألقى في يناير 1968 محاضرة عنوانها (الإرجاء) التي أثارت جدلاً واسعاً كونها تحرّشت بالنسق البنيوي للكلمات كما فعل دريدا نفسه عندما استبدل حرفاً (a) في مفردة “La différence” بدلاً من الحرف (e)؛ فتحوّلت إلى “La différance”، وهو الذي كان قال بكتابه (في علم الكتابة) ما نصه: “إن حركات التفكيك لا تتعامل مع الأبنية من الخارج، إنها لا تكون مُمكنة وفعّالة، ولا تحكُم ضربتها إلا بالسكن في هذه الأبنية، سكناها بطريقة معينة” (ص 90 – 91، وانظر أيضاً: ص 189 – 199). لذا آثر دريدا أن يحكُم ضربته ويسكن منازل اللغة، ومُساءلة الاسم للاسم.
فتنة السكن
هذا المنحى من السكن كان دريدا قد جرّبه منذ سنة 1963 عندما استخدم النحت الجديد لمفردة “La différance” في معرض تعليقه على أحد نصوص الفيلسوف ميشيل فوكو (1926 – 1984)، تحديداً كتابه (تأريخ الجنون في العصر الكلاسيكي) (للمزيد انظر كتابنا: فلسفة العلامة، ص 267)، ولكن لنقف عند محاضرة دريدا لسنة 1968، ونستطلع أفكاره حول المُصطلح الجديد الذي استخدم فيه الحرف (a) بدلاً من الحرف (e) لتصبح المفردة الجديدة “La différance” التي كنتُ عزمت على الاحتفاظ بترجمتها إلى “الاختلاف المرجئ” بدلاً من مُجرد “الاختلاف” في دلالته السائدة.
في سنوات مرّت، كنتُ أنتظر قراءة نص مُحاضرة عام 1968 بلغة الضاد، ولكن عدماً كان مسعاي حتى جاءت الفرصة عندما ترجمت الدكتورة منى طلبة متن كتاب دريدا (هوامش الفلسفة) في سنة 2019، هذا الكتاب الذي يتضمّن نص محاضرة دريداً “الإرجاء”.
يعترف دريدا أنه بصدد الخوض في “إطار الكتابة عن الكتابة وأيضاً الكتابة في الكتابة” (ص 33)، ولكن هذا مجرّد مدخل، فإذا كان يرتكب خطأ إملائياً، نراه يرغب بمحو هذه المخالفة الإملائية لكونه ذلك الكاتب الراشد وليس المبتدئ، إنه ببساطة يريد أن يسعى إلى أن “يفاقم من خطورة اللعبة” (ص 33)، يقول ذلك في ظل اعترافه بأنه ترك نفسه على “سجيتها” في هذا التدخّل الكتابي الطفيف، ويحتفي بالصمت؛ فالحرف (a) يأتي إلى كلمة الاختلاف La différance لا ليُسمع؛ بل ليبقى صامتاً وسرياً وكتوماً مثل قبر حيث يُنتَج في الإرجاء اقتصادُ الموت” (ص 34) بوصف الموت غياب صوتية الكائن أو الموجود القابع في الظلمات. ولذلك يقول دريدا: إن هذا الإرجاء “لا ينتمي لا إلى الصوت ولا إلى الكتابة” (ص 36)، وهو و”بادخاره لذاته وعدم عرضها بتجاوز ذاته غير عارض لها” (ص 36)، وإذا ما ظهر فسرعان ما سيختفي حتى إن دريدا ذاته يقرُّ بأن “الإرجاء هو غير كائن، وأنه ليس موجوداً حاضراً أياً كان”، مع العلم أن دريدا وعندما يستخدم الضمير “هو” يضعها هكذا “هxو” بغية نفي موجوديتها (ص 36)! وهذا نفي واضح للإرجاء لكونه بلا ماهيّة ولا وجود؛ فالإرجاء غير قابل للاختزال في أي تكييف جديد للأنطولوجيا أو اللاهوت أو الأنطو - ثيولوجيا”
 (ص 37). 
لا يريد دريدا أن ينطلق من مبدأ لاهوتي ولا فلسفي ولا أسطوري ولا ميثولوجي يتحكّم به في النظر إلى الإرجاء، إنه يريد البقاء في منطقة خطاب تجريبي منطقي مترهِّل في هروبه عن المعنى، مُتمسك باللعب والمناورة لأن الإرجاء ليس هو “بكلمة ولا بمفهوم” (ص 38) حتى نضعه على مسطرة نمسك عبرها بتلابيبه من أيّة جهة نريد. ومع ذلك يفترض دريدا خيطا علّه يأخذنا إلى براري المعنى فيقول إن “كلمة La différence بمعنى الاختلاف لم تستطع أبداً أن تحيلنا لا إلى الفعل différer بوصفه تأجيلاً، ولا إلى الاسم différend بوصفه نزاعاً، وهذه الخسارة للمعنى هي ما ينبغي لكلمة différance تعويضه اقتصادياً هنا” (ص 40)، ولذلك “ينبع حرف a مباشرة من اسم الفاعل différant وهو الاسم الذي يقربنا من الفعل différer قبل حتى أن يثير لدينا انطباعاً بمعنى المختلف différence أو الاختلاف différance المكتوبة بحرف a” (ص 40). 
 
إمكانيّة ولا سيادة 
ورغم هذا الحراك نحو المفهوم إلا أن دريدا يرى بأن الإرجاء هو ليس “مجرّد مفهوم وإنما إمكانية للمفهوميّة” (ص 43) ترانا نجتهد للبحث عن معناه ودلالته وحراك بنيته، ولذلك يرى بأن “ما يُكتب الحرف (a) في كلمة إرجاء هنا هو حركة اللعبة التي تَنتُج عنها الاختلافات والآثار الناجمة عن الاختلافات”، وهذا يعني أن الإرجاء هو “الأصل غير المُمتلئ وغير البسيط؛ الأصل المركّب المُرجئ للاختلافات، وتسميتهُ بالأصل لا تناسبهُ على الإطلاق” (ص 44). ويصرُّ دريدا على أن الإرجاء هو “ما يجعل حركة الدلالة غير مُمكنة إلا إذا أُحيل كل عنصر يُقال عنه إنه حاضر وظاهر على مسرح الحضور إلى شيء آخر غير ذاته” (ص 45). 
في خضم هذه اللعبة، يمر دريدا على جورج هيجل، وفريدريش نيتشه، وإدموند هوسرل، ومارتن هيدغر، كذلك سيجموند فرويد، ويستعيد مفاهيمهم لاعتقاده بأن “الفلسفة تعيش في الإرجاء وبالإرجاء” (ص 51) من دون أن يكف في أحاديثه عن “لغز الإرجاء”، ولا يتردّد في قوله إن “كُل ما يلقى اهتماماً في الفلسفة كان موضع اعتبار أصلاً في نظام الإرجاء وفق حساباتنا” (ص 53). 
ولا يحار دريدا في نسف الإرجاء من الداخل وكذلك الخارج لا سيما أنه يُدين الإرجاء: “يمكن لنا أن ندين الإرجاء برغبته في السيادة” (ص 55). ويحتفي، في خاتمة الأمر، بقوله: “بالنسبة لنا، يظل الإرجاء اسماً ميتافيزيقياً”، و”الإرجاء غير قابل للتسمية لأنه لا يوجد اسم لذلك”، ويميل إلى وضوح أكثر ليقول: “إن حرف (a) في الإرجاء ليست التسجيل الأزلي، وليست بُشرى نبوية بتسمية وشيكة لم تُسمع بعد، وليس لهذه الكلمة من رسالة تبشيرية لقلّة ما نراه فيها من فتوّة. إنها عبارة عن مساءلة الاسم للاسم”. (ص 60). 
تراني في هذا المقال المكثف أحرص بأن أكون على مقربة من جاك دريدا في نصه بلغة الضاد لأقطع دوابر التفسير أو التأويل الضارة التي التفّت حول هذا المفهوم، ولا أخفي عليكم إن مباحث جاك دريدا في هذا الشأن ليست سوى متاع ميتافيزيقي يدل على براعة العقل الذي يتأمَّل في شؤون اللغة من حيث وجودها بيننا.