لوحة سومرية مؤثثة بالمرأة والأوجاع..!

ثقافة 2019/10/20
...

 وجدان عبدالعزيز
حين التحدث عن ديوان (بريد الفتى السومري) للشاعر عدنان الفضلي، لابد من الربط بين الحضارة السومرية، وبين القصيدة النثرية، ذات الفضاءات المفتوحة على المتح من منابع المعرفة التاريخية والمعارف الاخرى..والقصيدة النثرية هي جنس فني جيء به لاستكشاف القيم الشعرية الموجودة في لغة النثر، ولغايات إيجاد مناخ مناسب للتعبير عن التجارب والمعاناة، التي واجهها الشاعر بتضمينه صوراً شعرية عريضة تتسم بالكثافة والشفافية معاً، من هنا بقي الشاعر الفضلي مسكونا بحضارة محافظته ذي قار، كونها ينبوعا ثرّا يمدّه بالكثير، فالحضارة السومرية من الحضارات القديمة المعروفة في جنوب بلاد الرافدين، وقد عُرف تاريخها من الألواح الطينية المدونة بالخط المسماري، وظهر اسم سومر في بداية الألفية الثالثة ق.م. في فترة ظهور الحيثيين، لكن بداية السومريين كانت في الألفية السادسة ق.م. 
حيث استقر شعب العبيديين بجنوب العراق،وشيدوا المدن السومرية الرئيسة كأور ونيبور ولارسا ولجش وكولاب وكيش وإيزين وإريدو، واختلط العبيديون بأهل الشام والجزيرة العربية عن طريق الهجرة، أو شن غارات عليهم، وابتكروا الكتابة على الرقم الطينية، وهي مخطوطات ألواح الطين، وظلت الكتابة السومرية، لغة الاتصال بين دول الشرق الأوسط في وقتها.. اذن تطلق سومر على الأراضي التي أطلق عليها بعد 2000 ق.م. اسم بلاد بابل. وسهل بلاد شنعار هو أراضي ما بين النهرين، التوأمين دجلة والفرات، وقد أطلق الإغريق على هذه الأرض اسم (ميزوبوتاميا)، وهي كلمة تعني بلاد ما بين النهرين، ويشكل أغلبها اليوم جزءاً من دولة العراق الحديثة، هذه المقدمة ساقتها قراءتي لديوان الشاعر الفضلي، الذي اهتم بالمرأة، كونها المخلوق الذي يشغل الجميع، حيث عرفها الكثير من العلماء والادباء والفلاسفة وكل حسب اختصاصه فمنهم من التجأ الى الفن بمختلف الوانه وعرفها بالعواطف، ومنهم من ذهب الى المجتمع والواقع وموقع المرأة في هذا، ومنهم من ذهب الى العلم ليدرس التكوين البيولوجي والنفسي والعضوي للمرأة واستعمل المختبر لتعريفها..وهذا كله يتجسد بماهية المرأة للرجل فاختصرها شكسبير، وقال عنها: (المرأة كوكب يستنير به الرجل ومن غيرها يبيت في ظلام)، وقالت الاسطورة الهندية (المرأة بالنسبة للرجل...مرآة ينظر من خلالها الى مجده، ووسادة يتكئ عليها، عندما يكون تعب، وقناعا يختبئ ورائه وهو تعس، وفكرة تستفزه فيبدع، ومنارة يهتدي بها)، وقال بلزاك: (المرأة هي مخلوق بين الملائكة والبشر)، وكانت هناك قوانين تختص بالمرأة في مختلف الشرائع، التي توالت على بلاد الرافدين، فقد تضمنت إصلاحات أوروكاجينا الاجتماعية تنظيم الأسرة ومكانة المرأة في الدولة السومرية، وتعرضت أيضا شريعة أورنمو مؤسس سلالة أور الثالة السومرية إلى تشريع القوانين المختصة بالمرأة الباكر والمتزوجة والمطلقة، ولم يغفل حمورابي عن تشريع قوانين تخص المرأة والأسرة، فقد خصص ثلاثين مادة قانونية تُعنى بالمرأة والأسرة في شريعته، فكانت المرأة في ذلك العصر تتمتع بحريتها وبحقها في العيش، حيث كانت تشارك في إدارة الدولة وشراء العبيد وتقسيم الأرزاق والطبابة والغناء والكهانة، وغيرها ويذكر التاريخ عدة ملكات حكمن بلاد وادي الرافدين كالملكة شبعاد وسميراميس وكوبابا وغيرهن.
 
تحليل قصائد الديوان
في قصيدة (الناصرية التي في العلا)، يقول الشاعر: (أورثتني الضلالة السومرية اللذيذة)، اي الناصرية بحضارتها والمرأة وما تحمل من معاني الحياة، اورثت الشاعر الغواية، لكنها غواية لذيذة، بحيث صارت الناصرية والمرأة منبع الشعر لديه، فالابوذيات التي تكتبها النسوة مدافة بالطين وبقايا القصب، والطين والقصب مواد الحضارة السومرية، وربط الشاعر الناصرية بالمكاريد(الفقراء)، كون الفقراء يمثلون الطهر والنقاء، فـ(في الطريق الى الناصرية../ ستجد آثار البساطيل على طول الطريق/إنها آثار(المكاريد) السومريين..)، هذه الحصيلة الفقر مع طهر الانفس والحب جعل ابناء المدينة يمتازون بالصدق وحب الارض، فطريق الناصرية طريق حضارة متجددة، (ستلاحظ ثمة مسرى على شكل زقورة تنتصب في ساحة عتيقة/هو طريق الله الذي تسلكه الملائكة)، وكان المغني يردد: (لورايد عشرتي وياك..حجي الجذب لاتطريه)، من هنا يأتي (بريد الفتى السومري)، حاملا العشق (لي..ممكنات العشق والخبل)، فـ(بعيني..رمقت نجمة في أقاصي الجنوب/فانعكس الجنوب بريقاً في مقلتيّ/لي..دخان قلوب العذارى/استنشقه..فتبرد رئتي والحنين)..اذن هي حضارة الطهر والنقاء والصدق والوفاء على العهد، وهكذا يردد الشاعر الفضلي: (كي استمر) في طريق الناصرية، لابد ان (امشط ارض السواد)، (فالأنثى قصيدة فاخرة/ والبياض يليق بالقصيدة)، وهذا الاستمرار يحتاج الى وجع تليد، كان امتدادا حتى وقت فقدان غزوان ابن 
الشاعر:
(كيف ساحرسها..
قافلة امنياتك المسرعة
وانت الذي سحبتني
لصحراء الفقد القاحلة..؟)
فالحضارة تقوم على اكتاف الفقراء الصابرين الانقياء، الذين لايقبلون الظلم والحيف..فكل هذا والشاعر الفضلي يقول: (كل هذا الضجيج واسمعكم!!..)، وفي قصيدته (حروبك المتناسلة) الى ناجح ناجي في محنته مع اللاجدوى، يقول:
(نعم..واعلم انك مازلت في داخلك..
داخلك المتجذر في سومريته
القابض ابداً على الندى)
اذن رغم وجع الحروب، الا ان ناجح ناجي كونه يحمل ارثاً سومرياً، فهو يحمل الجمال وندى الصباحات المفعمة بالابتهاجات والتجدد بدليل انه يقبض ابدا على الندى، اي يحمل دوما روح الصباح، (لذلك../توخَ الحذر/ وتأكد ان لاعسس بالقرب/ وقت ترغب بإنجاب زقورة)، فأنت يانجاح مشروع حضارة..والشاعر يردد:
(لأني سومري الذائقة)، فسوف اكون (خازن الفرح..)(واجهة لأنثى بطعم الجمر)لماذا؟، لأن الشاعر يستدعي اروك بقوله:
(أوروك:
دثريني بك
امنحيني فرصة
ان ارض الغناء على شفتيك
لأسيل كحبة ندى)
هكذا الشاعر يبقى مسكونا بالمرأة والجمال، رغم الاوجاع والفقدانات المتوالدة..والحقيقة ان ديوان (بريد الفتى السومري) جاء لوحة نثرية تحمل الحضارة السومرية المؤثثة بعطاءات المرأة والاوجاع السومرية التليدة.
ـ ديوان (بريد الفتى السومري) للشاعر عدنان الفضلي/إصدار الاتحاد العام للادباء والكتاب في العراق/الطبعة الاولى 2018 بغداد