الكلام وشعرية الصمت
ثقافة
2019/10/21
+A
-A
مهند الخيكَاني
"ولد الكلام من الصمت ،من الصمت الكامل ، كان كمال الصمت قد انفجر لو انه لم يكن قادرا على التدفق في الكلام ".
الصمت ـ الكلمة ـ اللغة ، يرتكز كتاب " عالم الصمت " لماكس بيكارد على هذا المثلث كقاعدة تنطلق منها الأفكار وتتدافع التصورات واحد تلو الاخر ، وما يدور بين ركائزه وما حولها من تحركات مكشوفة وضبابية احيانا ، يكشف عنها بيكارد بروحية متصوف وشاعر وفيلسوف .
يشير بيكارد الى أن الكلمة المرتبطة بالصمت هي الكلمة الخيّرة ، حيث يرى ان كل شيء خيّر وجميل يجيء من الصمت ، الكلمات السيئة هي نتاج الضجيج والهروب والعزلة والتطور ، مشيرا الى أن الكلمات السيئة لا تعود الى الصمت ، ويعود هذا التفسير الى كونه يتعامل مع الصمت على انه حالة مقدسة ، حيث ترتبط بالإله الخالق ، ويعطي عن المسيح مثالا لتلك الكلمات وعن الشعراء ايضا . ثم يرى في الكلمة المرتبطة بالروح هي الكلمة العائدة الى الصمت ، كما في قوله : "الكلام الإنساني لا تحدده الحقيقة فقط ، بل يحدده الخير أيضا : في الخير يعود الكلام الى أصله" .
تناول موضوعة الصمت بكل ابعادها واتجاهاتها وفق منظور بيكارد ، أسّس بطريقة او بأخرى لإفهام القارئ جوانب ومناحي عديدة يدور حولها عالم الصمت ، خاصة الاساس الذي تقوم عليه هذه الفلسفة ، برغم تنوع موضوعاته ، وهو في الحقيقة كتاب يمتاز كاتبه بخيال غير محدود استخلص منه هذه المعرفة ، وأحدس ان من يجاريه بالخيال من القراء، هو من يستطيع ان يفهم ويتخيل الصورة التي يحاول رسمها في الكتاب كما يراد له قدر الإمكان .
ويمكن عدّه تطبيقا لتفسير أهمية الخيال في استخلاص المعرفة ودوره الجوهري في تطوير العقل الإنساني وعلاقته الوطيدة بالمنطق ، على الرغم من أن الكتاب يتحدث في موضوعة ترتكز على المحسوس والذهني .
ومن الإشارات المهمة في الكتاب ، الصمت والكلام ، والكلام عكس الصمت ، لكنه لا يساويه أو يناقضه بشكل عدائي و كما لا يعني التوقف عن الكلام أو توقف اللغة حضور الصمت ، الا انه يقع في مشكلة هذا التحليل عندما يقول : إن اي اثنين يتحدثان هناك ثالث يصغي وهو الصمت ! ، واذا كان الصمت يصغي عندما يتحدثان اذن لماذا التوقف عن الكلام لا يعني الصمت ! ، الا ان جابريل مارسيل وقف على هذه النقطة تحديدا في التمهيد لكتاب بيكارد ، موضّحا وجوب التمييز بين الكلام بالمعنى الصحيح والثرثرة . يا ترى ما مقدار ان يستطيع انسانان التحدث بالمعنى الصحيح الذي يتحدث عنه مارسيل ؟
كما ويؤشر على أن الصمت موجود في الحياة والموت والحب وغيرها ويعتبرها ظواهر اساسية ، وموجود حتى في الكلمة المنطوقة ، موجود في الانسان بكميات كبيرة ، لدرجة انه لو تحدّث طوال حياته لما نفد.
ويرى بأن الانسان عندما يصمت يصبح شيئا اخر ، الكلام هو ما يجعله انسانا حيث يوعز ذلك الى القدرة الالهية المانحة لقدرة النطق والكلام . كما ويعيد الصمت والكلام الى مصدر واحد ، هو الإله . وبطريقة متخيلة ، يفسر لنا المسافة بين الصمت والكلام، والكلمة التي تتحرك بينهما ، فهي أما أن تتحول الى كلمة منطوقة وتنتمي لعالم الانسان وتحمل خصوصية مختلفة ، أو تعود لعالم الصمت ، وهي مختلفة الصفات في الحالتين ، لكنه في هذه النقطة يتحدث عن الكلمة ككائن مستقل يتصرف من تلقاء نفسه ، مسيّر بفعل قوى عليا، أي ليس محكومًا بإيعازات الدماغ ولا بما يريده الانسان ، خاصة ان اللغة لدى علماء الانثروبولوجيا جاءت بفعل الحاجة ، وتحقيقا
للنجاة.
في آخر الأمر كما اشار المترجم البارع قحطان جاسم في مقدمة الكتاب الى كون الكاتب فيلسوفا لاهوتيا ، وقد فسّر عالم الصمت وعالم الكلام واللغة عبر انتمائه الراسخ ، وهذا لا يمنع من مناقشة بعض طروحات الكاتب في إطار من المنطقية المتجردة .
وفي فصل عالم الأسطورة ، يقول بيكارد مبتدئا حديثه ،" يقع عالم الأسطورة بين عالم الصمت وعالم اللغة ، مثل أشكال تلوّح بصورة أكبر مما في حياة الغروب المتجمع ، فإن أشكال عالم الأسطورة تبدو ضخمة كأنها تخرج من غسق الصمت"، وهو بذلك يشير الى أن كل الأساطير موجودة قبل الخلق ، وكأنه يقول إن المخلوق لم يكن سوى وسيلة لنفاذ هذه " المآثر المكتوبة على جدار الصمت " ، لكنّها في الحقيقة نتاج الثقافة البشرية الاولى ، تلك الغارقة في المجهول ، ملتحمة بخياله الخصب الذي لم يُستهلك بعد ، في القول والفعل ، على الرغم من أن الخيال يكبر ويتسع ايضا باتساع الاشياء وازديادها . وهو بذلك يحرِم البشري ويجرده من التجربة والخبرة ، ويضع العقل البشري في خانة من الجمود وعدم الاستقلالية . فلو أخذنا بيكارد الفيلسوف نفسه ، في هذا الكتاب وقدرته الفائقة في ترسيم دلالاته حول الصمت وتفسيراته غير المأهولة ، وسخائه في التحليل والحفر ، لهو خير مثال على ما يناقض قوله بخصوص الأسطورة ، عمله هذا هو بحد ذاته يفيق على مناخ شبيه بمناخات الأساطير وارتكازها على الماورائي والمحسوس . فمن المستحيل أن تكون تلك الملاحم والأساطير موجودة من البداية ، بل انها بالتأكيد نتاج بشري محض أوجدته الحياة وظروف الحياة ومستوى الوعي ، سواء كانت عبر الأديان الأرضية والسماوية ، أو عبر التنجيم والسحر ، في زمن كانت كل معضلة فيه تحال الى الغيبيات والأساطير والسحر ، ويستطيع القارئ لكتاب " الغصن الذهبي" ل جيمس فريزر ، تبيان ذلك بوضوح تام ، لما فيه من غزارة في التفاصيل جعلته قاعدة معتمدة لعلم الإنسان ، في مجال الدين والسحر بصورة خاصة . وما يثبت حديثنا هذا هو تنوع الاساطير ، ووجود أساطير تعتمد على أشخاص حقيقيين أو شخصيات خيالية مثل شخصية روبن هود ، وأساطير تخاطب الآلهة كالآلهة اليونانية والاغريقية ، وهناك أساطير عالمية واخرى محلية ، وأحيانا تتنوع بحسب الانتماءات الإثنية أوالعرقية ، هذا التنوع المختلف والمتضاد في أغلبه بين الأساطير يؤكد أن الأساطير وجدت طريقا لها الى هذا العالم عبر مصادر وجغرافية مختلفة.
وليس من قبيل المصادفة أن يكون الشرق غنيا بالاساطير وفلسفته فلسفة روحية على العكس من الفلسفة المادية في الغرب . حيث إن للأساطير دورا في التأثير في ثقافة المجتمع، وسلوك أفراده .
" الحيوانات صور الصمت"، " لن يكون صمت الحيوانات وصمت الطبيعة نبيلا وعظيما جدا لو كان مجرد فشل لتجسيد اللغة ، عهد بالصمت الى الحيوانات والطبيعة كشيء خلق من أجلها " ، شيء مما ورد في فصل الحيوانات والصمت ، حيث يفترض بيكارد ان عدم قدرة الحيوانات على النطق ، لأنها خلقت بهذه الكيفية كحاملات للصمت ، أي أُريد لها ذلك من خلال عدم قدرتها على النطق ، وفي الحقيقة بيكارد ينظر الى كل الأشياء والمخلوقات في الغالب من وجهة نظر الانسان كمخلوق اعلى ، وبحسب ما يتوافر فيه من قابليات التفاعل ، والادراك ممثلة بالحواس والدماغ .
الا أن عدم قدرة الانسان على مخاطبة الحيوانات والعكس ، لا يفترض ان الحيوانات لا تمتلك لغة خاصة بها ، فمن الناحية العلمية أثبتت الدراسات ان الاصوات التي تطلقها الحيوانات والحركات هي وسيلة للتخاطب، وعدم ادراكنا لتلك اللغة أو الوسيلة، لا يعني أنها مجرد صور للصمت ! اكثر مما هي حيوانات.
ومن الناحية الدينية يرد في القرآن مثلا عن قصة سليمان الذي كما هو شائع ، كان يمتلك القدرة على مخاطبة الحيوانات ، نرى ذلك في سورة النمل . بل ان الانسان البدائي قبل ان يطور اللغة والنطق ، كان يلجأ للتشبه بالحيوانات ، حيث أن القردة تستخدم الصياح والضفادع النقيق ، والذئاب العواء والخ وهذا يثبت بسهولة تامة في نقطة التساوي هذه ، بين الانسان الاول والحيوان ، ان الحيوان يمتلك لغة ، وهي لغة صالحة وفعالة ، لكننا غير مؤهلين بيولوجيا لفهمها ، الا بمساعدة مؤثر آخر يمنح الانسان هذه الميزة ، كأن يكون مؤثرا ميتافيزيقي على سبيل الفرض .