د.عبد الواحد مشعل
لا يمكن الحديث عن حلول سريعة لأزمات المجتمع من خلال إجراءات سريعة بالطريقة التي يعلن عنها إلّا من خلال وضع رؤية واقعية عن حاجات الإنسان العراقي الملحة، فالتوظيف السريع سيزيد الأزمة تعقيدا، ويقود الى احتجاجات أكثر اتساعا، كما أن صرف معونات سريعة لفئات المجتمع الأكثر فقرا أو إيقاف إجراءات إزالة التجاوزات أو إعادة الآلاف من المواطنين الى وظائفهم التي تركوها وغيرها، لا يقدم حلولا ناجعة لجذور الأزمة المتراكمة منذ سنوات، فانتقال البلاد من نظام شمولي الى نظام برلماني ديمقراطي شيء جيد.
ولكن آلية الانتقال تحتاج الى وجود رؤية متكاملة لطبيعة النظام السياسي الجديد، فلا احد ينكر الحريات الشخصية في السفر والامتلاك وإبداء الرأي وغيرها، إلا أن ذلك يحتاج الى جانب آخر يدعم ذلك يتمثل في تعزيز الانتماء الوطني من خلال تحول بنيوي يقود الى مرحلة بناء دولة المؤسسات التي لا تزال مجتمعاتنا غير قادرة على الانتقال إليها، بسبب الموروث الثقافي سواء العشائري أو الطائفي أو العرقي الذي تعزز للأسف الشديد في العملية السياسية، والتي نفذ إليها المنتفعون باختلاف مشاربهم، وقد أفقروا البلاد بفسادهم وانشغالهم به دون أن يضع الكثير منهم اعتبارا لرؤية واعية لحاجات الإنسان، وتطلعه الى حياة تحترم فيها كرامته، فالمشكلة تتعدى بعض الاستجابات والإجراءات التي تظاهر من اجلها الشباب مؤخرا، فالمشكلة الأساسية هي في بنية الدولة التي تشكل عائقا كبيرا إزاء فهم حاجات وثقافة الإنسان العراقي المتطلع الى الديمقراطية وحقوق الإنسان أسوة بالشعوب الحرة.
إنّ بناء نظام سياسي ديمقراطي قائم على الحكومة والمعارضة سيتيح الفرصة لتصحيح المسار إذا لم يؤدِ وظيفته، فلا احد يريد أن يرى بلاده تمر بأزمات متلاحقة دون أن يكون هناك وعي عالٍ لدى المواطن بأهمية وضرورة الحفاظ على امن البلاد في خضم ظروف إقليمية ودولية معقدة في المرحلة الحالية، مع أهمية النظر الى الداخل وتقدير حاجات الناس الذين صبروا طويلا، فالمطالبة بالحقوق امر مشروع ويجب أن يرتقي الى شعور الجميع بتماسك البلاد وحفظ وحدتها الوطنية ولحمتها الاجتماعية.
حان الوقت لإعادة النظر في السياسات الاقتصادية والاجتماعية بحيث تكون قادرة على التوغل الى عقول الأجيال الجديدة التي يظهر أنها غادرت آليات السياسات السابقة التي لم تسعف البلاد في الخروج من أزماتها، وان تعمل الدولة بكل آلياتها من اجل اللحاق بطرق فهم الأجيال الجديدة لحاجاتها الجديدة، وخلاف ذلك ستتفاقم الأزمات وقد تصل الى مرحلة صعبة من تحقيق نقطة التقاء او توافق بين الناس والدولة، عليه ينبغي التفكير بآليات حقيقية تتناول طبيعة النظام الاقتصادي والثقافي، فما يتصل بالجانب الاقتصادي ينبغي أولا تشجيع الاستثمار بأوسع مدياته مع وجود رقابة على طرق التنفيذ للمشاريع بما يتفق مع المواصفات العالمية سواء في البناء أم في المشاريع الصناعية والزراعية وعلى وفق جدول زمني معلوم مع اشتراط تشغيل الأيدي العاملة الوطنية في هذه المشاريع وبالسرعة التي يتم فيها إقرار وتنفيذ المشاريع والتي ينبغي أن تأخذ وقتا سريعا، على يتم تنفيذ ذلك بالاعتماد على شركات ومستثمرين من دول متقدمة تمتلك التكنولوجيا والمال، مع ضرورة العمل في الوقت نفسه على تأمين بيئة آمنة للاستثمار.
مع إصدار قوانين تأخذ بنظر الاعتبار ثقافة المجتمع العراقي وميوله الاجتماعية في الحفاظ على النظام القيمي بما يؤهّل الإنسان حتى يكون قادرا على الاعتماد على نفسه في النهوض بواقعه الاقتصادي والاجتماعي ويكون على قدر عال من المسؤولية في الحفاظ على ممتلكات الدولة والمجتمع بعدِّها ملكا له.
كما ينبغي دعم الإنتاج الصناعي الوطني وتشجيعه مع دعم الفلاح العراقي في استغلال أرضه على وفق طرق حديثة في الزراعة وتربية الحيوان مع تشجيع الصناعات الريفية، كذلك العمل على تنظيم البيئة الريفية من خلال شق الطرق وتنظيم المقاطعات الزراعية، ودعم الإسكان والصحة والتعليم فيها.
أما مستوى السياسات الاجتماعية فينبغي أن يتصدرها الاهتمام بالتعليم، فهو المفتاح الأكثر جدوى في نجاح أي مشاريع مستقبلية في البلاد، هذا لا يأتي إلّا بالارتقاء بهذا الإنسان على وفق مبادئ التي تقرها الأمم المتحدة للتنمية الإنسانية حتى عام 2030 الطامحة الى بناء الإنسان الكامل.
كما ينبغي تشجيع التعليم المهني وتأهيله بحيث يكون قادرا على بناء الإنسان المنتج.
إنّ التعليم هو الطريق الأمثل المؤدي الى بناء صرح صناعي وزراعي ناجح، وكذلك هو الطريق الى بناء صحة حقيقية، كما هو الطريق الى بناء المواطنة المسؤولة، وإرساء قواعد الحضرية.
ينبغي أن ندرك أن الأجيال الجديدة تختلف في قناعاتها وتوجهاتها عن مثيلتها من أجيال الآباء، فهم ينظرون الى وجودهم الحقيقي في قدرة المجتمع ومؤسساته المختلفة على إشباع حاجاته الملحة والطبيعية، حتى يتمكّن من التكيّف مع بنية دولة تشعر بوجوده.
إذن نحن أمام منظومة قيم أجيال جديدة تتعدى الأطر النظرية التي كانت تؤثر في عقول الأجيال السابقة، لذا فإنّ إعادة النظر في الخطاب الديني والسياسي وطرائق التدريس، والتي ينبغي أن تتغير وتأخذ مسارا وطنيا يعمل من اجل غد أفضل يضم الجميع.
إنّ بناء الإنسان ليس بالأمر السهل بل هو يحتاج الى ثورة ثقافية تتوافق مع جذور الثقافة العراقية، والتي هي في الأصل ثقافة مدنية.
إنّ الخروج من الأزمة الحالية والأزمات اللاحقة ينبغي أن يقوم على ذلك، وان تؤسس ثقافة جديدة عابرة لكل الثقافات المحلية الضيقة وتتجه نحو بناء الدولة التي تبنى على اقتصاد وطني ووضع آليات جديدة للتغيير الاجتماعي عن طريق تبني التنمية البشرية التي تنبثق من ثقافة المجتمع وتقدر حاجاته.
فالمشكلة اذن بنيوية سواء في مجال الاقتصاد أم الجانب الاجتماعي أم السياسي، يجب الخروج من جلباب الثقافة التقليدية المعرقلة لبناء الدولة المدنية الديمقراطية القائمة على قيم العدالة والنزاهة وهذا يتطلب إرادة سياسية صلبة ورؤية موضوعية لدى كل الأطراف الفاعلة في المشهد السياسي العراقي.