الفلسفة والمجتمع.. ما الذي نحتاجه في حياتنا؟
ثقافة
2019/10/22
+A
-A
البصرة/ صفاء ذياب
لم يلتفت القارئ العراقي إلى الفلسفة والكتب التي تبحث فيها خلال العقود الماضية بالشكل الذي حدث في السنوات الأخيرة، الغريب أن أغلب المهتمين بالفلسفة والدراسات الفلسفية لم يكونوا من الأكاديميين والدارسين فحسب، بل هناك اهتمام واضح من قبل الشباب، الأمر الذي دعا الكثير من دور النشر الى أن تعيد طباعة الكتب الفلسفية القديمة، فضلاً عن البحث عما هو جديد في هذا العالم.وربّما أول ما يتبادر إلى ذهن المتابع هو حاجة المجتمع للفلسفة في الوقت الحالي، في ظل التحوّلات التي يمر بها المجتمع العراقي، ومن ثمَّ ما جدوى معرفتنا للفلسفة في بناء حياتنا.
مواقف الفلسفة
الدكتور علي المرهج، أستاذ الفلسفة في الجامعة المستنصرية، يرى أن الفلسفة ليست الفلسفة تأملاً تجريدياً والعيش في "أبراج عاجية" لأن من مهماتها الأخرى التغيير لا التفسير، ولا أدل على ذلك من أمثلة سبقت، فقد كان للفلاسفة دور في التغيير، خذ مثلاً على ذلك جون لوك في كتابه "رسالة في التسامح"، ولك أن تأخذ كل جهود فلاسفة التنوير في ألمانيا وفرنسا وصولاً لفلاسفة أميركا بدءاً من جفرسون وإمرسن وفرنكلين
وصولاً لبيرس وجيمس وجون ديوي.
ويضيف المرهج: الأمة التي لا وجود لفلاسفة فيها أمة نضب فكرها، فلم تكن لنا نهضة نحن العرب والمسلمين لو لم يكن فينا مثل: الكندي والفارابي وابن سينا وكل فلاسفة المغرب وصولاً لابن رشد رائد التنوير العربي والإسلامي الذي تلقفت رؤاه الفلسفية أوروبا فكان ما كان مما نحن نعرفه من حداثة وتنوير في الغرب، ولم تكن علوم جابر بن حيان والخوارزمي وابن الهيثم والإدريسي غير درس أول في الفلسفة والعلم لأوروبا.
فإذا كان هُناك بعض من القائلين بأن الفلسفة موقف والدفاع عن موقع، فهي كذلك، ولكنها موقف عقلاني لا حساب فيه ولا تعنيف ولا قصاص لمن لم ير فيه أنها كذلك، لأنها فكر حر (يتحرك من جميع الجهات إلى جميع الجهات)، بينما في الأيديولوجيا والتبني الأيديولوجي و"الدوغمائي" للفكر إنما فيه حساب وقصاص، ونزوع فرداني وقناعة بامتلاك الحقيقة عند أصحابها، فهي تتحرك من جهة واحدة بقصد إلغاء جميع الجهات وإلغاء الأبعاد، بل وفرض قناعة فكرية واحدة.
الخير والشر
في حين يشير الدكتور رسول محمد رسول الباحث في الفلسفة والروائي، إلى أن الإنسان يحتاج إلى المعرفة عامة، بل هي ديدنه في الوجود، ومنها المعرفة الفلسفية، وها هي حياتنا تبدو أُكلة ماسخة من دون التأمّل العقلي حتى صارت كل هذه الحقول طُعماً لا بد منه في الحياة والوجود والمجتمع؛ بل وكل قطاعات العمل؛ فالشر يقوم على فلسفة والخير يقوم على فلسفة، إن طرد الناس من منازلها وتهديمها يقوم على فلسفة شرانية، بينما توفير الطاقة الكهربائية للناس يقوم على فلسفة خيرانيّة، وهكذا هي جدلية الخير والشر في المجتمع.
أما عن جدوى الفلسفة في حياتنا، فيبين رسول: "قد تكون الفلسفة مِهنة يتوافر المرء بها على لقمة خبز، لكن الفلسفة أكبر من أن تكون ذلك فقط لأنها لغة الإنسان مع الوجود فيستخدمها لكي يصغي إلى صوت الوجود بكل مفرداته، ومنها مفردة الوجود الإنساني، ونحن نؤمن بالعاطفة، ولا ننسى تحكّم الأهواء بنا وفي سلوكنا اليومي، لكن هذا السلوك يحتاج إلى من يتحكّم ببوصلته، وتلك هي الفلسفة عندما تتوسّل الحكمة العقلية لبيان الشر من الخير، والجمال من القبح، والحق أو الصواب من الزيف، وهو ما نحتاجه اليوم في حياتنا العراقية على سبيل المثال، وكل ذلك لا يتوافر لدى الإنسان من دون معرفة فلسفية".
جدل التأثير
وبحسب الدكتور علي عبود المحمداوي، فإنه قد يرى البعض ألا أثر بين الطرفين، فالفلسفة كلام نخبوي لا علاقة له بهموم الناس. والناس بمعزل عن الخطابات العقلانية المفرطة التي تزيد حياتهم تعقيداً. وفي المقابل فإننا نرى العكس إذ لا معنى للحياة من دون أن نتعقّلها ونفهمها ونمارس دورنا النقدي فيها، وهذا يعني أنَّه لا معنى لها من دون التفلسف. والمجتمع لا يستطيع أن يغادر الممارسات الفلسفية ولا نظريات الفلاسفة في الكثير من ثناياه وميادينه المختلفة من الولادة إلى الموت مروراً بالدور الاخلاقي والاجتماعي والسياسي. ولذلك فالتأثير قائم بين الفلسفة والمجتمع.
مضيفاً أن الفلسفة لا تساعدنا فقط على فهم الأشياء. الفلاسفة أيضاً نشطون في السياسة. على سبيل المثال، صاغ الفيلسوف تشارلز تايلور النقاشات الكندية حول الديمقراطية والتعددية الثقافية، وعمل في لجنة التشاور حول ممارسات الإقامة المتعلقة بالاختلافات الثقافية. هناك أشياء مماثلة تنطبق على الفلاسفة الأخلاقيين إلى جانب فلاسفة مثل يورغن هابرماس ودوره في انضاج النظرية الديمقراطية. وقبله جون ديوي في أميركا ودوره في التعليم والتربية. هذا على الصعيد المعاصر أما اذا رجعنا بالتاريخ قدما فسنجد أدلة أكثر عدداً وأكبر أثراً في الواقع السياسي والاجتماعي.
ويوضّح المحمدواي أن الفلسفة الاجتماعية تعمل على دراسة العلاقات الانسانية وكيفية تنظيمها عبر منظومات السياسة والأخلاق والقانون، وكذلك على دراسة طبيعة المجتمع البشري نفسه: وما هو وضع وجود كيانات اجتماعية مثل الحكومات، العائلات، المنظمات، النقابات، الألعاب الجماعية. ولإجابات على سؤال "ما الناس؟"، و"كيف يجب أن نتفاعل؟" و"كيف ينبغي تقييم هذه التفاعلات"، كلها تنتمي إلى الفلسفة. والأهم من ذلك هو أن الحقل الفلسفي الذي يصف تحديد السلوك المرغوب فيه (وغير المرغوب فيه) الذي يسمى الأخلاق هو فرع فلسفي مهم واليوم بدأ يرتبط مباشرة بممارسة الطب وتنظيم نظام الرعاية الصحية.
الحس المشترك
ومن وجهة نظر الباحث صلاح محسن، فإن الشائع في مجتمعاتنا عن الفيلسوف هو إنسان يعيش قطيعة مع مشاكل الناس اليومية، وأنه عدو الحس المشترك، كثير الكلام ولا يجيد دق مسمارٍ في جدار، هذه الرؤية لدينا متوارثة من عداء
قديم.
فهناك قول مشهور "إن الله إذا فتح على قوم سد عنهم باب الجدل، وفتح لهم باب العمل" وهذا من ترسبّات العقل الفقهي القدري، بل إن أحد المراجع المؤثرين في وعي الناس أعلنها صراحة حرباً على الفلسفة من على منبر الجمعة لاعناً المأمون بأنه هو الذي أدخل الفلسفة
للإسلام. ما أريد تأكيده أن الفلسفة نشاط بشري عام وكل إنسان مهما كان مستوى تحصيله العلمي يستبطن مذهباَ فلسفياً معيناً يؤمن به من دون أن يدري، ويحمل بداخله فيلسوفا ما يشبه، لكن لم يوفق للقاء به، وكم هي صادقة عبارة كولريدج "يولد الإنسان أما أفلاطونياً أو أرسطياَ". بمعنى إما مثالي أو واقعي بنظرته للحياة والوجود.
نعم للفلسفة جدوى بتفعيل ملكة التفكير النقدي المتجذر في الدهشة والسؤال، فكل فعل وعمل هو مسبوق بسؤال وفكرة، قبل أن نحققها على أرض الواقع، وهذا الفصل بين الفكرة والعمل فصل واهٍ ومتعسف، وحتى على المستوى الروحي من الممكن أن تكون الفلسفة نوعا من العزاء بأن تدربنا على خلود ما، تحمل مصاعب الحياة بشكل أكبر، وهي بهذا المعنى شكل من أشكال التقوى، فالفيلسوف طبيب الأرواح المتعبة، وهذه وظيفة الفلسفة التي تم سرقتها من مشعوذي التنمية
البشرية.
مسار الحياة
ويبين الكاتب جمال جاسم أمين أن لكل مجتمع نخبا و صناع رأي وساسة ،هؤلاء هم المطالبون بتبني فلسفة عملية وناجحة، بل وتكمن مهارتهم في الكيفية التي يجعلون المجتمع يهضمها أو يمارسها حتى من دون أن يعلم ما يعني أن المجتمعات ينبغي أن تضع ثقتها بطبقة من الناس: أحزاب أو ناشطون أو مفكرون ومثقفون، هؤلاء هم المتصدرون، يصنعون للحياة معنى ويرسمون مسار البوصلة من دون أن يقعوا في الغرور التقليدي للنخب التي أضرت مجتمعاتها من خلال أوهام التفكير نيابة عن الناس! لا أحد يفكر نيابة عن أحد، بل من الممكن أن يحرض فقط وهذا هو الدور
الأمثل.