صناعةُ الشخصيّة السرديّة

ثقافة 2019/10/23
...

محمّد صابر عبيد
 
ينقسم النصّ السرديّ بين أقسام عديدة من حيث طبيعة التشكّل النصيّ وفعاليته ضمن منظومة سردية مؤلّفة من شبكة من العناصر والمكوّنات والآليّات والتقانات، وتعمل على نحو نسيجيّ تفاعليّ وتشاركي في تقاسم الأدوار والمحطّات والطبقات وتبادلها للوصول إلى الحالة الأكثر تكاملاً ومثالية، ويستوي فيها النصّ السرديّ على أكمل وجه بلا خلل في حركية العناصر ونسبة حضورها اللائق في التشكيل، وتوصف الشخصية السردية بأنّها من أبرز عناصر التشكيل التي ينهض عليها العمل السرديّ عموماً، إذ هي تتوسّط العناصر الأخرى وتوفّر لها فرص التشابك والالتقاء والعمل والأداء الذي يصبّ في دائرة واحدة.
هذا العنصر الأساس في طرائق صوغ النص السرديّ “الشخصية” هو الأكثر فاعلية من بين شبكة العناصر الأخرى العاملة في هذا الحقل، لأنّ كلّ العناصر الأخرى تستند إليه في نشاطها السرديّ النصيّ، وبما أنّ الشخصية السردية بهذا الاصطلاح العام تنقسم بين شخصيات تنتمي لأنواع سردية مختلفة فيمكننا على هذا النحو أن نسمّي “الشخصية الروائية” بدلالة ميدانها النص الروائي، و”الشخصية القصصية” بميدانها النصي القصصي، و”الشخصية السيرذاتية” حيث تشتغل في فنّ السيرة الذاتية، ولكلّ منها عجينة سردية خاصة تختلف عن غيرها في طرائق الصوغ والأداء معاً، وثمّة ما يمكن وصفه بعجينة الشكل الأساس ضمن أنواع السرد المعروفة تتشكّل وتتبلور اعتماداً على هويّة النوع ومستلزماته النصيّة. 
ينهض العمود الفقري للشخصية السردية على طبيعة “الصفات” التي يخلعها الراوي عليها كي تتشكّل الصورة الخارجية العامة لها، ومن الصفات ما هو خارجيّ جسديّ يرسم الملامح الخارجية للشخصية ومنها ما هو داخليّ يملأ الصورة الداخلية لها، ولا يمكن لأيّ شخصيّة سرديّة أن تعيش في عالم النصّ السرديّ من دون صفات، تكثر أو تقلّ، تتقلّص أو تتمدّد، تبرز بقوّة أو تظهر بشفافية تقترب من الخفاء، بحسب متطلّبات التجربة وهويّة النوع السرديّ، ويعتمد كلّ ذلك على طبيعة الشخصية المصنوعة ودورها في الحبكة ودرجة حضورها المتشعّب في المتن النصيّ. 
لا تكفي الصفات العامة لتشييد صورة الشخصية السردية المكتملة بل لا بدّ من “التوابل السردية” وهي تضاف على الصفات والملامح كي تبرز الحساسية والجاذبية الخاصة لها، ويتوقف نوع التوابل وكميتها على دور الشخصية ونمطها من حيث الحضور المركزيّ الرئيس أو الثانوي البسيط في حبكة الحدث، على النحو الذي يسهم في نموّ الشخصية نموّاً أفقيّاً في سياق ونموّاً عموديّاً في سياق آخر، ويتمّ التلاعب بصفات الشخصية من حيث تكبير بعض الصفات وتصغير صفات أخرى بما يتلاءم مع الحراك الذي تنهض به في كل طبقة من طبقات عملها القصصيّ.
يشكّل اقتراح وضع تسمية معيّنة للشخصية مشكلة من مشكلات البناء السرديّ وذلك لحضور مجموعة من الاحتمالات في هذا الصدد، فإما أن يختار لها اسماً محدّداً وهنا تنفتح احتمالات أخرى أمام فضاء التسمية في حساسية الاختيار، أو يُكتفى بضمير من الضمائر الدالة على الشخصية من قريب أو بعيد، وقد يكتفى بصفات مميّزة تلاحق الشخصيّة وتدل علامياً عليها في حراكها داخل المتن السرديّ.
حين يكون الراوي ذاتياً فهو بالتأكيد أحد الشخصيات الفاعلة في الميدان السردي، فهذه الشخصية تروي ذاتها بلسانها وتحيط بفعاليات الشخصيات الأخرى المجاورة لها، وتوجهها أحياناً عن طريق إحساسها بالهيمنة والتحكّم في مسيرة الحبكة السردية ومتغيّراتها، أما الشخصية المروية فهي الشخصية التي تخضع لـ “كونترول” الراوي كلي العلم وهو يتسلّط من علٍ على الحراك السردي العام للشخصيات، ويتولّى شؤونها ويدير فعالياتها إدارة محكمة تستجيب لطبيعة التجربة والحدث والمقولة والفلسفة التي يقوم عليها النص السردي، ويعمل الحوار في مستوى آخر من مستويات التشكيل على إبراز خصائص أخرى للشخصية تحيل على المرجعية الثقافية القادمة منها، وتبقى دائماً تحت أنظار كاميرا السرد لأجل ضبط حركتها وتمثّل فعالياتها الداخلية والخارجية معاً وفي درجة واحدة من العناية، إذ يتحقّق توجيه عدسة الكاميرا نحو الشكل المقترن بنوع الصفات وطبيعة الحركة وآليّة الفعل داخلياً وخارجياً.
تمثل عملية الإعداد للشخصية ما قبل الكتابة وفي أثنائها الجوهر الأصل لبناء الشخصية ودورها في التشكيل السردي العام والخاص للنصّ، إذ لا بدّ من وجود تحضيرات أوليّة لكلّ شخصية من شخصيات العمل كي تتكامل الرؤية الابتدائية للصورة النصية العامة، لكنها بالتأكيد ليست نهائية وحاسمة ما لم تدخل حرارة الفعل السردي الميداني بألوانه وروائحه وأمزجته وحساسياته، وتبدأ بإكساء نفسها ما يتوجّب من الصفات والملامح الملائمة القادرة على مواصلة المسيرة السردية بلا تلكؤ ولا مماطلة ولا تسويف ولا مشاكل تنعكس سلبياً على فلسفة البناء السردي العام في النص، لأنها في ما بعد تكتسب صفات غير مخطط لها تُفرَض على منطقة الإعداد وتغيّر كثيراً من الصور والخرائط الأولية التي وُضعت داخل محيط الإعداد، وتشرع في العمل لحسابها سواءً أتوافقَ مع منطقة الإعداد أو اختلفَ أو تباينَ قليلاً أو كثيراً بما يحقق للشخصية السردية استقلاليتها المطلوبة، لتكون لها حياتها الخاصة بعيداً عن الوصاية والفروض الخارجية حيث تشبّ عن الطوق في حركة تآمرية مع الراوي الذي يترك الحرية الكافية لها لأجل أن تعبّر عن ذاتها السردية على النحو الذي يستجيب لتطورات الحبكة، وفي الوقت نفسه لا بدّ من الاستعداد للتحولات المفاجئة التي قد تحصل في أيّ لحظة والسماح لها بأخذ وضعها بحريّة وعدم إجهاضها، ففيها تتركّز القيمة الأعلى والأكثر جدوى لتكوين شعرية النصّ القصصيّ لأنها ستولد ضمن حاجة سردية قد تتمرّد على مرحلة الإعداد الأوليّة، وهذا التمرّد يمثّل جوهر الطرافة السردية المشحونة بماء سرديّ منبثق من جوهر الفعل الكتابي الذي لا يخضع سوى للتجربة نفسها، ولا يعبّر إلا عنها، ولا يستجيب إلا لمعطياتها وضروراتها وقد تكشّفت عنها تطورات الفعل الكتابي الذاهب نحو تحويل التجربة من فضاء ذهنيّ متخيّل إلى فضاء كتابيّ له ضرورات وكشوفات خاصة، قد تلتقي في مستويات معيّنة مع خطوط مرحلة الإعداد وقد تتباين معها وتختلف وتنحو نحواً
 مغايراً.