غسان حسن محمد
يتنفس بعمق كما لو أنه يريد ان يجمع الهواء كلُّه في رئتيه..، يقف على شاطئ نهر دجلة يتحسس بكفيه الماء..يغرف منه بضع غرفات..، يصبها على وجهه وعلى كامل جسده..يكاد ان يفسد بذلته الزرقاء(السموكن)..، سامر البغدادي.. الرجل الثلاثيني وُلد لأبوين عراقيين في بروكسل..،يحمل في جعبته العديد من الحكايات عن بغداد والعراق..بعد أن اكمل تعليمه في أكاديمية فنون بروكسل في اختصاص النحت..، أقام العديد من النصب في المدن الاوروبية..صار ضمن قائمة اشهر فناني العالم..،منذ سنوات رحل ابيه عن عالمنا بعد أن أوصاه بـ (أن يذهب الى بغداد ويسرح بصره وروحه في نصب الحرية يلقي عليه السلام وعندها سيحوز شهادة الاحتراف من قبل فنان العصر
جواد سليم).
ها انه الان في بغداد وقد استقل سيارة الاجرة الى حيث الباب الشرقي، منتصبا فيه ( نصب الحرية لجواد سليم)..
يترجل من السيارة يقف مذهولا امام النصب والمارة من حوله يواصلون السير..يمعن النظر في النصب ..لا يرى غير جدار اسمنتي ابيض اللون وخلفه “ حديقة الامة”..، بيديه يفرك عينيه معتقداً أن عشوا اصابهما..ينظر ثانية وثالثة ورابعة...
الخ.
لا اثر لكائنات النصب..يوقف أحد المارة
ويسأله:
سامر: عفواً هل هذا نصب الحرية لجواد سليم؟
الشخص المار: نعم.
سامر: واين المنحوتات..لا اراها على جسد النصب؟
الشخص المار( بتوتر وغضب): يبدو انك قادم من بلاد الرفاه..التي انستك وطنك وشواخصه الحضارية والجمالية...غادره ذلك الشخص..وغدا سامر كما لو انه أصيب بمقتل.. شعر بأسى شديد لما سمع ..انتابته نوبة حزن لايعرف ما يفعل..قدحت فكرة في ذهنه..، ان يذهب الى قبر جواد سليم في مقبرة الاعظمية الذي حفظ عنوانه من خلال ابيه عن ظهر قلب..أنهُ المعني بالاجابة عما جرى
معه.
سامر يجلس قبالة قبر جواد سليم بعد أن القى عليه التحية يسأله:
سامر: استاذ جواد مررتُ اليوم على نصبك ولم اجد كائنات النصب؟
جواد سليم: في اي عام نحن؟
سامر: 2019م.
جواد سليم: ذلك يعني ان عمر “ نصب الحرية” ناهز الـ (60) عاماً..لقد تبدلت الاحوال على مستوى الزمان والمكان.
سامر: ماذا تعني؟
جواد سليم: انها الحياة بصيروراتها اللامتناهية..على ان التغيرات التي ظهرت على “الانسان” كانت أكبر.
سامر: كيف ؟انرني استاذ؟
جواد سليم: سأحدثك عن النصب وكائناته..الام الحامل رمز الخصوبة والعطاء ..تماثل امنا الطبيعة..لا انتهاءَ لدورها..لكن الامهات صرن يعددن الابناء على امتداد الحروب..الجندي لم يحظ باستراحة من الحروب لقد مُسخ الى بندقية..الفلاح صار يُنتج ربع الغلة بعد ان غدت المياه رسماً على الخرائط..ولأنك فنانٌ ترى بروح خلاَّقة..فإنَّ كائنات النحت لا تتجلى امام ناظريك.
سامر: ماذا بشأن الجواد والثور الرافديني ..؟
جواد سليم: لقد غدت مهمة الجواد صعبة لكنها ليست بالمستحيلة..فبعد ان كبا لمرات عدة..غدا اكثر اصراراً على انهاء رحلته..صار جامحاً يقطع المسافات يتبعه ظل الفارس..تحت شمس لاتأفل وهي تغسل وجهها كل يوم بماء دجلة والفرات الطهور.. بشهادة الثور الرافديني حارس
الحضارات.
سامر: سيدي وبغداد؟
جواد سليم: بغداد لايفارقها المجد..لاتكترث بالحرائق..انها كطائر العنقاء تنهض من الرماد.
ينتهي الحديث ويسمع سامر موسيقى تنبعث من القبر تعزف بوساطة غيتار،وثمة حمامات بيضاء تحمل بأفواهها أغصان زيتون.. تطوف فوق رأسه..يستمر العزف والحمامات تؤدي رقصاتها في السماء..لحظات وينتهي العزف..تهبط الحمامات نحو القبر..تنشر اغصان الزيتون على القبر..وتستأنف رحلتها في التحليق من جديد.