شِراكُ «مكتب الإنسان» اللذيذة!
ثقافة
2019/10/28
+A
-A
محمد الحداد
هذهِ مقالةٌ أتعبني حملها كثيراً..وأعترفُ أنني ترددتُ طويلاً في كتابتها وأجّلتها أكثر مما يجب..لكنها اليوم أبتْ إلا الخروج بعد أن ظلتْ حبيسة أدراجٍ قصيةٍ لذاكرةٍ بعيدة لكنها عصية تماماً على النسيان..أتحدثُ هنا عن قصةٍ غريبةٍ ومذهلة..قرأتُها عشراتِ المرات ومازالتْ كما قرأتها أولَ مرة: سهلة ممتنعة..تجودُ بجمالها وَضَوعِ عِطرها لكنها لاتبوحُ بأسرارها بسهولة للعابرين..وتنصبُ بين كلماتها أشواكاً لاسعة تحرسها من العابثين والمتعجلين..كاتبُها استثنائيّ بامتياز..تناولَ فيها ثيمة استثنائية بميكانيزمية استثنائية أيضاً..ولا أبالغ لو قلتُ أن للقصةِ بصمة تختلفُ عن كل ما أبدعهُ كاتبها طوالَ حياته..هو نفسهُ أخبرنا بهامشٍ تذيلَ القصة بأنها أول تجربة من نوعها بالنسبةِ إليه..أتحدثُ هنا عن قصة “مكتب الانسان” للراحل عبد الستار ناصر .
أتذكرُ تماماً المرة الأولى التي قرأتُ فيها تلك القصة في العدد 5-7 من مجلة الأقلام لعام 1996..ويحدثنا فيها عبد الستار ناصر عن مكتبٍ صغير يسمى مكتب الانسان ويخبرنا بأنهُ «حقيقي» واصفاً لنا مكانهُ بشكلٍ دقيق بقولهِ «إنهُ يقعُ في شارع الرشيد بمحاذاةِ جسر السِنك من جانب الرصافة»..والمكتبُ «قرينٌ» لمكتبٍ آخر في اسطنبول يحملُ الاسمَ نفسهُ يقعُ في شارع “تكسيم» قرب جسر السَمك..مالكُ المكتب البغدادي هو الشاعر سلمان داود محمد..القرينُ البغدادي لغازي أتاتورك مالكُ المكتب الأناضولي..سلمان الذي “يمشي على خطواتِ الروح التي عافها غازي أتاتورك إليه..لهُ في كل كبوةٍ حارسٌ يرفعهُ وملاكٌ يحرسهُ وأصابعُ تحميهِ من الوباءِ والكوارثِ وكيدِ النساء»..وسيظل غريباً وغامضاً وجهُ المقارنة هذا بين شاعرٍ شفاف ودكتاتور متورط ببحارٍ من الدماء..لكن ثيمة التناسخ المكاني والروحي ستظل أيضاً أغرب ما في القصة ولغزها الأكبر..أعني الاصرار المتكرر للكاتب على عقدِ مقارنةٍ غريبةٍ تتكئُ على علاقةٍ قدريةٍ غامضة بين الشخصيتين والمكتبين ليبث من خلالها شفراتٍ غامضة فيغرقنا في متاهاتهِ اللذيذة من دون أن يُبقي لنا أيّ خيارٍ إلا أن نصدقهُ في ما يجترحهُ وننساقُ ببلاهةٍ مُسكرةٍ لمهامز ابداعاتِ خياله. تتكررُ ثيمة التناسخ الروحي هذهِ كثيراً في القصة..»سلمان داود هو نفسهُ الذي تكررتْ ولادتهُ مرتين..واحدة في استانبول عام 1881 من امرأةٍ أعجمية والثانية في هذا النهار عند الخامسة فجراً حينما أطلقَ عليهِ الجيران “باصرارٍ عجيب” اسم سلمان»..»وحينما ذَبحتْ امرأةٌ من نساءِ الزقاق خروفاً عند بابِ السيد داود محمد قالت وهي تبكي وتهمسُ بصوتٍ حزين: اسمهُ غازي..هو الذي رأيتهُ منذ سنين طوال..غازي مصطفى كمال أتاتورك..هو نفسه والله العظيم..وبعد أن نطقتْ بهذا الكلام لم يعد من أحدٍ يراها أو يسمع بها..سوى أن سردابَ قبرها لا يزالُ فارغاً» ..تماماً كحالِ المرأةِ التي «وقفتْ عام 1881على ولادةِ أتاتورك ولم يعد من أحدٍ يسألُ عن سرِّ قبرها الفارغ “أيضاً” في سفوح الأناضول!»..»ما معنى أن “يحتلَ سلمان داود الجسدَ الأناضولي ويعيشَ فيهِ حتى قيام المكتب الشهير؟كيف أن سلمان داود يفتتحُ هذا المكتب في بغداد غريزياً من دون علمهِ أو ارادتهِ كما تمليه قوى خفية تتسللُ نحوهُ من مكانٍ بعيد وزمان أبعد”..هذه المرأة الغامضة هي ذاتها التي «همسَ أمامها أتاتورك مبتسماً وهو يموت عام 1938 قائلاً: «سآتي لزيارتكم بعد حين..اطمئنوا..هناك ألفُ رحمٍ سينجبُ ألفَ أتاتورك وسوف نلتقي قريباً”..»أي معجزةٍ أن يشاءَ المستحيلُ ويأتي القرين البغدادي سلمان داود بعد ثماني وخمسين سنة على وفاةِ أتاتورك ويكرر فتح مكتبٍ صغير يحملُ اسم ذلك المكان المستطيل في شارع تكسيم ليكتبَ عند أعلى الجدار: مكتب الانسان لبيع القرطاسية واستنساخ البلاوي المدرسية؟» بل إن ذلك التناسخ القريني يمتدُّ ليطالَ حتى أصدقاء سلمان داود «وهم مبدعون معروفون” ذَكرَهم الكاتب بأسمائهم الحقيقية وأخبرنا أنهم يحملون نفس أسماء المقربين إلى أتاتورك! «كوزير المالية “علي عبد الأمير” الذي كان صديق طفولة أتاتورك الأول..و”دنيا ميخائيل” أول مَن قالت شعراً وهي تفتحُ ذراعيها لأمير المستقبل” أتاتورك”..و”حسن النواب” الصديق الأثير لأتاتورك الذي بعثَ بهِ كسفير إلى مملكة العراق وكان شاعراً من طراز قصصي مدهش لكن أتاتورك طلب منهُ أن يعود إلى تركيا وأبقاه “إلى يوم مماته” سفيراً من دون سفارة»!
اللافت والغريب معاً أنني بعد قرائتي للقصة توجهتُ في اليوم التالي مباشرةً إلى المكانِ ذاتهِ في رحلةِ بحثٍ بلهاء عن ذلك المكتب المثير الذي وصفهُ الكاتب في قصته..هكذا وبكلِّ بساطة خَدَعني “بملء ارادتي” فصدّقتهُ..وللحقيقة فلا أخفيكم أنني فرحتُ كثيراً لأنني لم أجد للمكتب يومها أيّ أثر يُذكر..كان هذا يعني أن الكاتبَ جعلني أصدّقُ كذبتهُ الجميلة وأباركُ لهُ خداعي واستدراجي واصطيادي بشراكِ أوهامهِ اللذيذة..ويالها من شِراك إقناع مُحكمَة.
ثمة أسئلة مبهمة تتعلقُ بالقصة لم أجد لها أجوبة حتى الآن..منها أنني اكتشفتُ أن القصة نشرها الكاتب ورقياً ضمن كتابه القصصي “سيدنا الخليفة» بزيادة حوالي عشر صفحات لا أعرف سبب حذفها من مجلة الأقلام التي كان يعملُ في تحريرها كُتّابٌ لايزال بعضهم على قيدِ الحياةِ والكتابة..كرئيس تحرير المجلة ماجد السامرائي وبهيئةِ تحريرٍ مكونة من ابتسام عبد الله وأحمد خلف وحسب الله يحيى وعبد الخالق الركابي..وربما تسعفنا ذاكرتهم بأسرارٍ تتعلقُ بنشر تلك القصة الخطيرة وأسباب حذف بعض صفحاتها.
القصة برمّتها مغرقة بغرائبيتها..وبوسعي القول إنها نسيجٌ محكمٌ من الألغاز المعقّدة والشِراكِ اللذيذة التي أجادَ عبد الستار ناصر حياكتها بأصابع محترفة..لكن أضواءَ النقد لم تُسلط على القصة حتى اليوم بشكلٍ يليقُ بروعتها ويفكك بعضاً من أسرارها.
مفاجأةُ ما قبلَ النشر:
الأمر الأكثر غرابة والذي أعتبرهُ تحولاً دراماتيكياً في الأمر هو أنني قبلَ دفع هذهِ المقالة للنشر اكتشفتُ بالصدفةِ المحضة أن مكتبَ الانسان كان موجوداً بالفعل في المكانِ ذاتهِ الذي ذكرهُ الكاتب في قصتهِ ولم يكن ابتداعاً من نسج خياله..كأنهُ كان ينقصني انتظار ثلاث وعشرين سنة لأعرفَ تلك الحقيقة..حدثَ ذلك بعد أن قرأتُ مقالة للكاتبة هدية حسين «أرملة الراحل» أوضحتْ فيها «عمق العلاقات أدبياً واجتماعياً بين الكاتب والشاعر الذي راحَ بدورهِ يتماهى مع تلك الأجواء التي رَسَمها الكاتب»..وأن الراحلَ كتبَ عنهُ قصة أخرى أسماها «حارس مكتب الانسان» لكني لم أعثر عليها للأسف..وأكدتْ وجود المكتب بالفعل في المكانِ ذاتهِ..وأنهُ «أخذها إليهِ فإذا بهِ مكانٌ صغير لا يتسعُ لأكثر من أربعةِ أشخاص».يبدو أن الأقدارَ اختارتْ لي ألا أهتدي إلى المكان يومها..فثمة أسرارٌ يتوجبُ أحياناً على المرءِ ألا يكتشفها إلا بعد حين..لكن حقاً ماذا كنتُ سأفعلُ حينها لو أنني وجدتُ المكتب؟هل كنتُ سأدخلهُ وأتحدث مع مالكهِ عن مكتبهِ الغريب أم عن أسرار القصة وغموضها وغرابتها؟
بعد ذلك اتصلتُ بالشاعر سلمان داود “القرين البغدادي لأتاتورك” وتكلمنا بشأن القصة فقال:هل تصدقُ أنني مازلت أبحثُ عن القصتين معاً منذ زمنٍ ولم اعثر عليهما بعدَ أن فقدتهما ضمن مكتبة نُهبتْ في زمن التهجير والفوضى؟ فأخبرتهُ أنني مازلتُ حتى اليوم أحتفظ بنسختين ورقيتين منها ويسعدني اعطائه واحدة..وأوشكنا أن نرتبَ لقاءً قريباً لكن سفرهُ إلى أسطنبول للعلاج أجّلَ ذلك..من يدري..ربما طرقَ الحنينُ القدري لقرينهِ الروحي بابهُ فهبَّ ملبياً نداءهُ الخفي.
السؤال الآن هو هل امتصَ خبرُ الوجود الحقيقي لمكتبِ الانسان شيئاً من بريقِ أسرارِ هذهِ القصة المذهلة؟ وهل خابَ ظني لذلك؟
أبداً..فسواء أكانَ المكتبُ حقيقياً أم من نسجِ خيال عبد الستار ناصر فسيكفيهِ فخراً أنهُ تمكنَ من توظيف أدواتهِ القصصية بهذهِ التقنيةِ الحرفيةِ العالية ونجحَ تماماً في خداعي واستدراجي للبحثِ عن مكتبٍ غامضٍ ومثير..مُستمتعاً بوقوعي في شِراكه اللذيذة..وسأظلُّ مَديناً لهُ بذلكَ ما حييتْ.