تظاهرات الجامعات والمدارس!

آراء 2019/10/28
...

د. حسين القاصد 
 
الدول تُقاس بعلمائها ومفكريها، وكلما شاعت عسكرة المجتمع تراجع العلم، و تراجعت سمعة هذه الدولة أو تلك.
لذلك فثقافة السلام المجتمعي وقبول الآخر ليس لها أن تتحقق دون ازدهار التعليم، وحتى يزدهر التعليم لا بدّ من رعاية خاصة تقوم بها السلطة؛ ولقد تلاشت هذه الرعاية، بل غابت في أغلب الأحيان، فصرنا نرى مدارس لا تليق بتضحيات العراقيين من أجل أن ينعم أبناؤهم بأجواء تعليمية مناسبة.
لذلك كنا نتمنّى أن يكون من بين مطالبات المتظاهرين أن توفر الجهات المعنية كل ماتحتاجه المؤسسات التعليمية لكي تسير عملية التعليم بانسيابية تامة؛ وهو أمر من مسؤولية أولياء أمور الطلبة وليس من مسؤولية الطلبة الذين يجب ألا يشغلهم شيءٌ عن دراستهم.
للمدارس والجامعات أجواؤها ومناخاتها التي تميزها عن كل الأجواء الأخرى، فهي أكثر ملاءمة من أجواء البيت والأسرة، وبحسب قوانينها الصارمة هي أجواء تخص التعليم ولا تسمح بما هو غيره.
وتعد الجامعة الوجه المشرق لحياة مدنيّة تزدهر بالعلم والوعي الوثاب .
والطالب اسم فاعل من الفعل طلب ومضارعه يطلب، والطالب في الحرم التعليمي يطلب العلم دون غيره، وليس له أن يطلب أيَّ شيء غيره؛ إذ كل ما لايمت بأية صلة للعلم لا مكان له في واحات العلم والمعرفة، من المدرسة الابتدائية إلى أعلى الجامعات العلميّة.
لكن، وبعد موجة التظاهرات التي تهيمن على المشهد العراقي، وجدنا من ينادي بهجر العلم في مكان تعاطيه، وجعل الجامعة او المدرسة مسرحا لما يتسبّب بهدر هذا الحق في التعلّم والتفريط به. إنّ التظاهرات الحالية  في أساسها، وفي أهم ما نادت به، هي مطالبة بالحقوق؛ ولعل مقولة (نازل آخذ حقي) واضحة جدا، ووفقا لهذه المقولة يجب على المتظاهرين أن يحافظوا على ما لدى الناس من حقوق وعدم التفريط بها، ومن أهمها حق التعليم. لكنّ اصواتا تعالت وتلا هذه الأصوات أفعال ملموسة أحرقت شعار (نازل آخذ حقي) وأفرغته من محتواه؛ فبعد أن طالت يد المخربين بعض البنى التحتية للدولة ومؤسساتها، ومارافقها من عملية حرق وتدمير؛ صرنا نسمع اصواتا تحث على أن تكون الجامعات والمدارس وكل أروقة التعليم، ساحة للتظاهرات والاعتصامات.
نعم، التظاهرات حق مكفول، لكن التعليم حق متاح وموجود، فلماذا نحرّض الطلبة على ترك حقهم الموجود والنزول للمطالبة بحقوق ضائعة.
حتى في الحروب التي تهدّد البلاد يبقى الطالب بعيدا عنها، منشغلا بحقه في العلم والتعلّم، فيستشهد الآباء والأخوة الكبار كي ينعم الطلبة بحياة تعليميّة هادئة وأجواء دراسيّة بعيدة عن لوثة السياسة وارهاصاتها.
علينا إبعاد المدارس وتلامذتها عن فورة التظاهرات، وعلى المعلمين والمعلمات وإدارات المدارس أن تعي خطر المغامرة بمصائر الاطفال، فهم في المدرسة لتلقي العلم، ومن يود التظاهر من المعلمين والمعلمات فليصحب ابنه أو ابنته بعد الدوام الرسمي إلى مكان التظاهرات، لكن ليس لأحد أن يدفع بالأطفال إلى ما هو ليس من همومهم، بل إلى خطر متوقع لاسيما بعد الأحداث المؤلمة التي رافقت التظاهرات.
يعاني الجانب التعليمي من تراجع مخيف بسبب سياسات الحكومات المتعاقبة وسطوتها السلبية على قرارات التربية والتعليم، لذلك من يضمن عدم قيام التلاميذ بالعبث بالمدارس والجامعات، ومن يضمن عدم قيام الطلبة بمطالبات تشل يد العلم والتعليم وتشيع العبث وتتسبب بقرارات تسهم بتراجع عجلة التعليم؛ فمازال صوت المطالبات بشمول الطلبة الراسبين بدور ثالث قائما ومدعوما من بعض الساسة الذين يتدخلون بشأن التعليم لتحقيق منافع انتخابية، فكيف لو جرت هذه المطالبات داخل الجامعات والمدارس؟، عنده سينتهي ما نسميه هيبة التعليم ويكون لكل طالب لم يتمكّن من النجاح أن يصطحب خمسة أشخاص معه إلى إدارة مدرسته او عمادة كليته، لينتزع موافقات غير أصوليّة او يتسبّب بعدم انسيابيّة التعليم ويعكّر الأجواء الدراسية؛ بل يسبب إحباطا كبيرا في نفوس الطلبة المتفوقين بعد أن ينتهز بعض الطلبة  فرصة التظاهر او الاعتصام داخل المبنى التعليمي. 
أبعدوا أماكن العلم عن أجواء التظاهرات المتشنّجة، ومن شاء أن يتظاهر من الطلبة او الملاكات التعليمية فليتظاهر في الأماكن الخاصة بالتظاهرات وإبعاد الأجواء الدراسية عن أجواء التظاهرات، لكي لا نضحي بحق موجود لنطالب بغيره، وذلك أضعف الأخلاص.