ظاهرة العنف في المجتمع العراقي المتغيّر

آراء 2019/11/04
...

د. عبد الواحد مشعل
 
مع التغيرات في الموازنات الدولية برزت الى الساحة الاجتماعية في مختلف البلدان النامية ظاهرة العنف، فمع مجيء النظام العالمي الجديد تصاعدت الدعوات الى العولمة، وهذا يعني تقلص نفوذ الدولة القومية والتخلّص من النظم الشاملة والدعوة الى حقوق الإنسان، حتى أن العولمة تحمل معها تناقضا واضحا ففي الوقت الذي تعود فيه الى ثقافة واحدة تسود المجتمعات الإنسانية شجّعت الأقليات على تحقيق هوياتها الثقافية الفرعية.
ومن هنا كان للانثروبولوجيا دورها الكبير في وصف هذه المواجهات بين الأقليات المختلفة، ومن هنا نلمس صور عديدة لهذه الصراعات وإشكال عنيفة من العنف، ووقفة في هذا المجال نلمس أن تضاد الثقافتين ولّد أحقادا ما جعل العنف يتصاعد بشكل  خطير تقع آثاره على النسيج المجتمعي وتمزيقه. ولعل هذا التوجه يؤشر الى عوامل الصراع والعنف قد وجدت لها بيئة ملائمة. لعلّ الصورة التي يمكن تحليلها عن ظاهرة العنف الذي لا يزال يمثل  ظاهرة تقلق المجتمعات المعاصرة كافة ومنها المجتمع العراقي، فهذا العنف له جذور ثقافية ومرتبط بقضايا العقائد الدينية، وهو في شكلها النهائي يتخذ السلوك العنيف، والذي يهم الباحث العلمي إزاء ذلك الوقوف على الجذر الثقافي لهذا العنف الذي يؤجّجه بعض السياسيين   في مجتمعاتهم لأسباب سياسية وثقافية، والضحية هو الشعب.
 إنّ الإعلام ولاسيما الإعلام الجديد بوسائله التي تعدت حدود المؤسسات الى الاستخدام العام الشخصي، الذي يعدّ من أهمّ الوسائل الناقلة لأخبار العنف وفي الوقت نفسه هو الأداة المهمة التي بلورة وعيا مشتركا لمجموعات متباينة في مستوياتها وانتماتها.  
لو حللنا طبيعة العنف المستخدم في التظاهرات الشعبية في بغداد والمحافظات لوجدنا أنّ هذه الظاهرة لها جذورها الثقافية في المجتمع العراقي، فالشخصية العراقية تعد من الشخصيات التي لا تتحمّل  تعرضها الى استفزازات من أي جهة كانت، وهذا يرجع الى حالتين تتسم بهما هذه الشخصية، ففي الحالة الأولى نرى احد أسباب استفزازها التكوين الأيكولوجي (البيئي) للعراق، فارتفاع مناسيب دجلة والفرات عبر الزمن خلق نوعا من الاستفزاز والتأهّب، وما يجعل هذه الشخصية تعيش حالة من القلق كما أنّ ارتفاع درجات الحرارة الى مستوى عال جداً يجعل الشخصية حادة المزاج. أما الناحية الثانية فتعود الى جذور الثقافية لعراقية نفسها فلا يزال الإرث القبلي يوثر كثيرا في رسم طبيعة الشخصية ويعطيها فرص التعبير عن حاجتها بالقوة وفي ممارسة التسلّط وغيرها.
 
دور سلبي 
في أحيان كثيرة تؤدي الشائعات دورا سلبيا في نشر العنف والسلب ولعل ابرز العوامل في أعمال القتل والشغب ولاسيما القتل الجماعي دون وازع من ضمير، ولعل من ابرز عوامل العنف هو تأجيج بعض الأخبار الكاذبة عن العنف ونشره بشكل انفعالي وسريع في الوقت نفسه. كما أن عدم قدرة الحكومة على إشباع الحاجات الأساسية الملحة يزيد من حالة الاستفزاز في هذه الشخصية ما يدفعها الى الثورة والمطالبة بحقوقها المشروعة. وقد تكون هناك أسباب تاريخية بسبب الصراعات والحروب والغزوات التي مرت على المجتمع خلال التاريخ، ما جعل هذه الشخصية لا تنام على ضيم وقد قاومت كل أشكال الاستعمار.
 إنّ العنف في المجتمعات المتغيّرة ومنها العراق يرجع الى طبيعة الحراك الاجتماعي والثقافي فيها، ووجود نوع من الصراع حول مختلف المسائل الفكرية والثقافية. 
إنّ ظاهرة العنف في المجتمع العراقي تحتاج الى دراسات مستفيضة  للوقوف على جذورها وتقديم البدائل التي يمكن أن تكون بمثابة علاج لها، ولعل أهم وسيلة لعلاج هذه الظاهرة هي إشباع الحاجات الإنسانية وفرض القانون على الجميع. كما ينبغي التذكير بأنّ العنف أضحى ظاهرة عالمية، ما يتطلب تقديم دراسات في العلوم المختصة وبحيادية، لمعرفة جذور العنف في المجتمع العراقي، كما أن للعنف أسبابه السياسية، ومنها الصراع على السلطة والنفوذ والمال، ما يجعل المواطن العراقي ضحية 
ذلك.
 
بيئة العنف
ينشأ العنف في المجتمعات التي ليس لها قدرة على خلق أجواء مناسبة للحوار، فكلما كانت درجة الحضرية عالية مالَ أبناء المجتمع المتحضّر الى الحوار نظراً لغياب العصبيات وابتعاد أبناء ذلك المجتمع عن الأحكام المسبقة والضيقة، لذا فإنّ المجتمع الإنساني كلما ارتقى بحضارته قلّت النعرات القبيلة والعرقية والطائفية، فإذا عبر الإنسان بوعيه الى حقوقه الإنسانية وبناء دولته المدنية خلق ذلك عصرا جديدا له، فالعنف مرتبط بضعف الوعي والنظر الى الأمور بقصر نظر، وهكذا دائما اقترن العنف بالتخلّف وعدم القدرة على الحوار من اجل إرساء دعائم حياة مليئة بالمنجزات والتواصل الايجابي مع
الآخرين.
وعليه لا بدَّ أن سماع صوت العقل وبناء مجتمع يسهم الجميع في بنائه، وليس من العيب الاعتراف بالخطأ ولكن كلّ العيب في الإصرار عليه.
لقد ترامت مشكلات الإنسان العراقي خلال سنوات عدة وكان لا بدَّ من الانتباه الى حاجات الإنسان والعمل على تحقيقها ووضع حد لظاهرة الفساد التي نخرت كيان الدولة حتى أصبح من الصعب وضع العلاج السريع لها إلّا باتخاذ قرارات صارمة ضد الفساد وقلعه من جذوره والعمل على التخلّص من المحاصصة العرقية والطائفية، فبذلك خلاص للعراقيين جميعا، فالثقافة العراقية خلال التاريخ الطويل رفضت مثل هذه التقسيمات التي تبنى على أثرها إقطاعيات، لا يمكن للمجتمع العراقي القبول بها فمنطق التاريخ يقول 
ذلك.