التقدّمُ إلى الأعلى

ثقافة 2019/11/09
...

محمّد صابر عبيد
 
ما تعرفه فلسفة الجهات على صعيد ثنائية التقدّم والتراجع التقليدية في الحياة عموماً هو أنّ التقدّم يكون دائماً نحو الأمام، والتراجع نحو الخلف، ضمن خطّ مستقيم واحد بين نقطتين تتضح الأشياء فيه وتُعرف ويتجلّى المفهوم عن كثب “أمام/خلف” على نحو مُتّفَق عليه تماماً بين جمهور المتابعين والرائين ومن لهم علاقة بموضوع التقدم أو التراجع، وتعدّ هذه الفلسفة نموذجاً للمسيرة الآليّة الحسابية التي لا تقبل الخطأ بحكم قسوة آليّتها وحِرفيّة قواعدها واعتمادها قانوناً صارماً في علم الرياضيات، إذ كلّ شيء في الحياة يحاول التقدّم نحو الأمام كي يحقّق منجزاً ما يُضاف إلى ما تحقّقَ سابقاً
وحين يخفق في ذلك فهو إنّما يتراجع نحو الخلف لأنّ الأشياء دونه في تقدّم وهو ثابت في مكانه، وهذه هي حقيقة الحراك الطبيعي في الوجود، وعلى وفقها يتمّ تقويم المنجز الحضاريّ الذي لا يمكنه أن يكون رقماً مهماً في حساب الحياة بلا تقدّم نحو الأمام، وعلى هذا النحو تشتغل كثير من المؤسسات المحليّة والقاريّة والدوليّة لمعرفة مناسيب التقدّم في أنشطة الحياة المركزية من أصغر نشاط إلى أعقد وأكبر نشاط.
فما الذي يتقدّم نحو الأعلى إذن ولا يفكّر قطعاً بالتقدّم نحو الأمام لأنّ جوهر بنائه وتشكيله هو جوهر عمودي وليس أفقياً؟ لا شكّ في أنّه لا ينتظم في سياق الموضوعات الحيوية التقليدية التي تنتهجها معظم العلوم والمعارف الإنسانية العامة وهو بحاجة دائمة لتقدّم مستمرّ دؤوب نحو الأمام، كي يتّضح مستوى التطوّر فيه لأنّ الـ”أمام” هنا هو معيار رياضي حاسم لقياس درجات التطور ووضع الحلول حين يعكس هذا المعيار خللاً ما في هذه المسيرة، وكلّ تقدّم نحو الأمام هو تقدّم محسوب بدقّة في مراحله كافة بحيث يمكن قياس هذا التقدم في كل مرحلة. 
ومعرفة السياق الذي يحصل فيه، وهو ما يجعله على المستوى الحسابي قابل للملاحظة والتدقيق والنظر والمراجعة للحصول على أفضل طريقة ممكنة للتطوّر، في حين يصعب قياس ذلك في شكل التقدّم نحو الأعلى لأن مستواه ليس أرضياً كي يمكن قياسه، بل هو فضائي يمتدّ في أفق سلّمٍ يخترق الأجواء ولا يسير فيها على درجات محسوبة بدقّة وتعيين وهندسة واضحة، بل ينطوي على قوانين بالغة الخصوصية لا يمكن تعميمها لأنّ كلّ حالة من حالاته لها ظروفها وقواعد تقدّمها وأعرافها ومواضعاتها وفلسفتها وغموضها.
الأدب بأشكاله الإبداعية المختلفة وكذلك الفنون الجميلة بأنواعها المعروفة هو ما يتقدّم نحو الأعلى وليس إلى الأمام، لأنّ مقياس التقدّم نحو الأعلى نوعيّ في حين مقياس التقدّم إلى الأمام كميّ، فالشاعر والروائي والقاص والفنان في مختلف ضروب الفن يتوجّه بنظره وفكره وإبداعه وتأمّله وحساسيته نحو الأعلى دائماً، إذ هناك في الأعلى –مهما طال سلّم الوصول- تكمن جواهره وكنوزه التي تحتاج إلى جهد مضنٍ لبلوغها، لذا فإنّ تقدّمه بحاجة إلى معرفة وخبرة ودربة وتجربة وتجريب وبحث ونسج وصوغ وضخِّ طاقةِ إبهارٍ فريدةٍ فيما يبدع، كي يكون بوسعه التقدّم درجة نحو الأعلى على هذا السلّم الذي لا يسمح لغير كبار الفنانين والمبدعين ارتقاء درجاته، لكنّه يحرّضهم دائماً على ارتقائه ويغريهم ويشجعهم حتى تحطّ مسيرتهم على درب التطوّر السليم، ويسهم تقدّمهم هذا في صناعة الجمال البشريّ الذي لن يكون بوسع الحياة أن تتحضّر وترتقي من
 دونها.
التقدّم إلى الأعلى يحتاج إلى قوّة دفع ضخمة غير مرئية كي يرتفع المتقدّم نحو الأعلى بطاقة طيران واختراق هائلة، وهي تساوي أضعاف أضعاف تلك الطاقة التي تساعد المتقدّم إلى الأمام حيث لا تحتاج قضية التقدّم نحو الأمام سوى قوّة بسيطة ربما بقدر قوّة الريح كي ينتقل من نقطة إلى نقطة أخرى باتجاه الأمام، بينما يستعين الذاهب نحو الأعلى بكلّ ما يمنحه قوّة غير اعتيادية ذات طبيعة عرفانية كي يتسنّى له الصعود والاختراق والوصول، وقد تستمرّ محاولاته وتجاربه كثيراً ليكون مؤهلاً فعلاً لعميلة التقدّم هذه على نحو ينسجم تماماً مع الفنّ بأشكاله وأنواعه وتجلياته. وفضلاً على القوة الضخمة التي تحتاجها عملية الصعود نحو الأعلى فهي تحتاج إلى الموهبة الأصيلة مقرونة بالذكاء التنويريّ، فمهما كانت القوة ضخمة وهائلة لا يسعها الانطلاق إلى الأعلى من غير هدف حقيقيّ لا توفّره سوى الموهبة التي تقوم على كفاءة الذكاء، فعنصر الذكاء يسهم على نحو أصيل في اختيار زاوية الانطلاق ومعدّل السرعة ومحور الاتجاه وطريقة التقدّم، لأجل بلوغ أفضل حالة من حالات التقدّم بما يناسب طبيعة الموهبة وهدف التقدّم وفلسفته وما يحققه من منجز مضاف.
التقدّم إلى الأعلى تقدّم تأسيسيّ ورائد في المجال الإنسانيّ العام المنعكس على المجال الفنيّ الخاصّ، وينبغي أن يقوم على أرضية صلبة ساندة ودافعة تسمح بالارتفاع والسموّ والصعود  والتمكّن من المساحات التي يتبلور ويتجوهر فيها باقتدار، لذا فهو يحفر تقدّمه في الذاكرة البشرية أبد الدهر ويظلّ شاهداً على أيقونة حضارية أبدعها عقل فنيّ مدهش لا يعرف سوى التقدّم نحو الأعلى، ولا شكّ في أنّ هذا النوع من التقدّم هو تقدّم تراكميّ وتصاعديّ على صعيد التخصيب والتثمير الجماليّ لكلّ مرحلة فيه، بمعنى أنّه تقدّم هرميّ تقوم كلّ مرحلة فيه على ما حققته سابقتها من منجزات وإبداعات وقيم خلاقة جديدة، تخرج من صلبها وتنطلق في أفق التقدّم العلويّ بثقة وأصالة وولادة طبيعية مكتظّة بالعافية والرحابة والحرية، تخترق الزمان والمكان والرؤية وتترك بصمتها الفريدة ذات الحيوية والنشاط والتألّق شاهداً على موهبة نوعية وذكاء بارع، وتمنح الفضاء المحيط بها سطوة عابرة للإعجاب ومشحونة بطاقة معرفية إبداعية غير قابلة للزوال أو النكوص أو الغياب، وعلى الرغم ممّا قيل وما يمكن أن يقال في تفسير هذا الصعود وشرحه وتحليل طاقاته وتأويلها فهو يبقى محروساً بغموض شفيف يصعب كشفه تماماً، إذ هو يعطي من نفسه شيء ويخفي في أعماقه أشياء تجعله أكثر جاذبية وسحراً
 وحضوراً.