تحرير العقد الاجتماعي وبناء التوازن بين المتعاقدين

آراء 2019/11/10
...

محمد خضير سلطان
 
تروي الحكاية الطريفة الحقيقيّة أنَّ متسوّلاً مرَّ في سوق الصيرفة بالشورجة  فرأى حزم الأوراق النقديّة بأنواعها وفئاتها وأشكالها الكثيرة المتناضدة على مكاتب الصيارفة المنهمكين في عدّها ورزمها بسرعة، حارّ جواباً حيث لا أحد من المتسوّلين قريباً من هنا بينما ظنّ أنّ أموال الله والعباد كلّها في هذا المكان
، طفق يسأل من مال الله ويمدّ يده ففوجئ بجفاء خالٍ من حياء الناس عادة حين يسألون لا أن يردوا بنبرة زاجرة – الله 
ينطيك .. 
الله ينطيك، بل إنّ البعض منهم لشدّة غلاظته ينبري بالقول له “الله ينطيك” بمجرد أن يقدم عليه وقبل أن يبدي كلمة ضراعة أو ترجٍّ، وما إنْ يئس المتسوّل وسلّم بالأمر حتى تشجّع على أن يصرخ في الوجوه الخالية من الملامح ويقول: شينطيني إذا أنتم ماخذيها 
كُلهه.
وهكذا أعرض الميسورون في الحكاية عن مساكين الله، مثلما أدارت الطبقة الحاكمة وجهها عن الشعب وحقه في الثروة، ولو لم يكن الشعب شعباً لتقلّص الفارق بينه وبين المساكين وإيراد الحكاية هنا ليس للمقارنة أبداً فكانت اللحظة التشرينيّة التي ينعتق بها “رأس الفقير المسكين” محتجّاً ويستعيد تنفيذ عقده التشريعي ويحقق شريعة المتعاقدين بين المجتمع والدولة أولاً وبين الله والانسان ثانياً.
لقد أخلّت الطبقة الحاكمة بالعقد المبرم بينها وبين الشعب كما يخلُّ الميسورون الجشعون بالعقد الإلهي الضمني بينهم وبين المساكين على قارعة الطريق.
لذا جاء الأول من تشرين الأول من سنة 2019 ليكون بداية أولى لملامح تحقق بناء الحلم التاريخي اليقظ، لحظة حساب التاريخيّة العراقية منذ دخول البلاد الى العصر الحديث، ويشكّل أيضاً تدشين انطلاق وتفاعل فيزيائية شعب في تراكم غير حيوي منذ تأسيس الدولة في العشرينيات من القرن الماضي، إنّه أول حساب زمني لمسار الخط المتصاعد نحو الأمام وبدء العد الحقيقي نحو مستقبل قريب جداً بلا زيف أو وهم او 
تدوير.
ولعلّ هذه اللحظة التشرينية الجديدة لم تأتِ لكي تستقم في سياق منتظم  بل تعثرت كثيراً طيلة العقود الطويلة الماضية لتصل مفارقاتها وتعارضاتها ومخاضاتها الى الحد التي تقام “الثورات” في العراق بلا ديكتاتوريات وتسقط الثانية بلا مد جماهيري وتصطنع الدولة وترتهن في إطار السلطة وترتكس القبيلة لتتقمّص البناء الحديث، لقد كانت أزمنة النخب التسلطية بلا منازع التي تحجب الواقع  عن  تاريخيته، وكانت جداراً سميكاً عازلاً بين المجتمع والدولة حتى جاءت فرية المكوّنات المجتمعية بعد 2003 والزج بها في الوقائع السياسيّة لتفضي الى طور جديد من أطوار العماء السياسي
 العراقي.
وجدت هذه اللحظة صيرورتها وتشكّلها الى النور عبر الظلام الكثيف الذي ألقاه فقهاء المكوّنات السياسية بين اتّجاهين متناقضين، الأول؛ وضع صندوق الاقتراع في دائرة المذاهب الدينية السياسية وإلحاق الدولة والاقتصاد بالطبقة السياسية حتى غدت الطبقة السياسية هي الطبقة التجارية نفسها “طبقة صيارفة” فتقوّض قطاع المجتمع وقام هذان الاتجاهان على كسب المشاركة الديمقراطية والتأثير في الاصوات الانتخابيّة فيما انعدمت فرص العمل وتشكّلت قطاعات كبيرة من المأزومين بين تأييدهم لطبقة سياسية خانتهم في التوزيع العادل 
للثروة.
بمعنى هناك عقد بين المجتمع والطبقة السياسية، يلتزم به الأول في ترشيح واختيار الطبقة الحاكمة فيما يتعهّد الثاني بعملية تكافؤ الفرص والتوزيع العادل للثروة، وإذا كان هذا العقد الاجتماعي قد حدث طيلة الدورات الانتخابية الماضية والتزم به الطرف الأول غير أنّ الطرف الثاني لم يتحمّل مسؤوليات حسب وإنّما احتكر كلياً ثروات البلاد لدى مجموعات وجهات صغيرة من المنتفعين مختزلاً شمول الدولة في سياق مكوناتي 
ضيّق.
وبذلك، اتسعت شرائح المهمّشين والمقهورين الذين يدفعون أثمان أصواتهم ودمائهم المهدورة، ونشأت لغة الثورة والاحتجاج واستعادة بناء العقد الاجتماعي بتوازن بين الصوت الانتخابي والعدالة.