احتجاجات «أكتوبر» وإمكانية إعادة تشكيل الدولة
ثقافة
2019/11/16
+A
-A
عبدالزهرة زكي
(نحن فخورون إذ جعلنا راية العراق أعلى من كل شيء)
من حديث تلفزيوني لمتظاهر بغدادي
7 ت2 2019
هل جرى الانتباه إلى مفارقة تاريخية نادرة حصلت بحصول تظاهرات أكتوبر 2019؟
هذه المفارقة يثيرها اقتران هذه التظاهرات بالذكرى المئوية الأولى لميلاد الدولة العراقية الحديثة، فارق عام أو أشهر لا قيمة له بالقياس إلى مئة عام من البناء والتهديم، من التقدم والتراجع، من الرفعة والانكسار، من العنف والسلام، هذه مخاضات رافقت عملية تشكل الدولة الحديثة طيلة قرنها الأول. واقعاً يمكن عدّ(ثورة العشرين)، في القرن الماضي، سنختلف بشأنها حتماً كما هو شأننا في كل شيء، لكن ومهما اختلفت وجهات النظر حولها، يمكن عدها على أنها البداية الشعبية لتاريخ تأسيس الدولة الحديثة. كانت تلك بداية احتجاج شعبي منظم، ومتى ما تكون الدولة يكون معها الاحتجاج، لا دولة ولا تقدم بلا ازدواج ثنائية السلطة والمعارضة.لا دولة حقة بلا معارضة، وحتى حين لا تكون هناك معارضة فمن الضروري أن تعمل السلطة على تهيئة إمكانات خلق المعارضة، خلقها طبعاً وليس تلفيقها.
كان الفارق في ذلك التأسيس المبكر للدولة يكمن في أن الاحتجاج كان البداية التي بكّرت فسبقت ومن ثمَّ مهدت للتأسيس الرسمي للدولة، فقد سبق الاحتجاج الشعبي ذلك التأسيس. في عام 2019 يأتي الاحتجاج الشعبي بوعدٍ آخر لتشكيل آخر للدولة العراقية التي انهدّت مرات خلال قرنِها الأول وجرى التشبث بإعادة تشكّلها مراتٍ. كانت المسافة غير واضحة في كل مرة ما بين انهدادها وتشكلها، العلامة الفارقة للتأسيس الأول في الربع الأول للقرن العشرين كانت أكبرمن العلامات الأخرى التي تلتها، وكانت علامة تهدم الدولة في 2033 هي الخلاصة الأوضح لكل الانهيارات المتتالية للدولة خلال عمرها المئوي.
تظاهرات 2019 يمكن أن تكون هي البداية الشعبية الطامحة للنهوض الجديد بالدولة، ويمكن أن تؤسس لبداية ثانية للدولة العراقية.في وقائع التاريخ يمكن للنتائج غير المحسوبة، غير المتوقعة لحدث ما، أن تتقدم على النتائج المخطط لها.
هذه التظاهرات، من حيث طبيعتها وحجمها وأساليبها في التعبير عن نفسها، هي فعل استثنائي في سياق تاريخ الاحتجاج الشعبي العراقي، وهي بالتالي وعد استثنائي، غير أن هذا وعد يظل مشروطاً بمؤثرات كثيرة أخرى يمكن أن تعضّد الإرادة الشعبية للتغيير أو أن تتعارض معها.نحن ما زلنا في مخاض هذا الحدث، لكنه يظل مخاضاً مؤسساً مهما كانت النتائج التي يمكن أن تحسم إيجابيتها، غير أن يظل منوطاً بالكيفية التي يمكن أن تتصرف بها قوى السلطة مع هذه المعارضة المفاجئة والمباغتة، ومع وقائع التظاهرات ومطالبها. تظاهرات أكتوبر 2019 بطبيعتها الاستثنائية التي سنشير إلى جوانب منها هنا حسمت جانباً أساسياً في إمكانية التغيير والتأسيس، ذلك هو استعادتها لدور الشعب كفاعلٍ ومؤثر، وهو دور يأتي هذه المرة بما ينسجم مع لحظته التاريخية ومع موقع الدولة العراقية في التاريخ الراهن.
نحن في خضم عمل سلمي احتجاجي يريد إعادة بناء الدولة العراقية، حتى وإن لم يقل ذلك، وليس هدّها. الطبيعة السلمية واحدة من فوارق هذا الاحتجاج عن احتجاجات 1920 التي اعتمدت الطابع الثوري العنيف بمواجهة سلطات الاحتلال الأشد عنفاً حينها. وهذا الفارق هو نتاج لتغير الحياة والسياسة والعصر.
الأقرب من 1920 هو عام 2010 حيث بداية الحراك الاحتجاجي في العراق ما بعد 2003. سيكون من الصعب الفصل والقطع ما بين هذه التظاهرات الأخيرة وما سبقها من حراك جماهيري بأعوام سابقة ما بعد 2010، لكن الفارق واضح ما بين محدودية تلك التظاهرات السابقة (ذات الاطار النخبوي بمعظمها) وما بين جماهيرية وشعبية تظاهرات 2019. هذا فارق قد يكون مهما لصالح التظاهرات الراهنة، وقد من اجنب آخر يترك فراغا لم يملأ حتى الآن في التظاهرات. برغم هذا الفارق إلا أن الصلة لا تنقطع بين هذه السلسلة الاحتجاجية، لقد كانت تلك التظاهرات المبكّرة تعبيراً عن مراحل دنيا من نمو جنيني للاحتجاج الشعبي، وكان احتجاجاً محكوماً بظروفه. وكان من هذه الظروف تقيّد المتظاهرين في تلك السنوات بمراعاة الظرف الأمني والتهديد الإرهابي من جانب وبتمنّع القاعدة الشعبية الأوسع عن المشاركة في التظاهرات أو الاكتفاء بالتعاطف معها وذلك تحسّباً من تلك الظروف ومن إمكانية سقوط الدولة بأيدي الارهاب. إنها قاعدة شعبية ظلت محكومة بالأمل بإمكانية الإصلاح وبالخشية من تشتيت جهود القوات الأمنية ما بين مهمة مواجهة الإرهاب وما بين حماية التظاهرات. لقد كتبت حينها مقالاً هنا، في جريدة الصباح، منبّهاً فيه إلى أن « محدودية التظاهرات لا تعني أبداً تعبيراً فعليا عن الحجم الحقيقي لما يعتمل في نفوس المواطنين، فلا ينبغي لهذه المحدودية أن تكون سبباً في عدم الاكتراث بالنقمة الشعبية الصامتة والتي ستنفجر يوما حتماً».
انفجرت فعلاً هذه النقمة في أكتوبر 2019. وتطوّرت خلال أيام من مجرد مطالب خدمية تبدو بسيطة إلى مطالبات سياسية متنامية، وكانت بالتأكيد ستتطور بهذا الاتجاه حتى وإن جرت تلبية بعض المطالب الخدمية أو جميعها، ذلك أن جوهر المشكلة في الخدمات، بمختلف المجالات، نابع من الطبيعة البنيوية التي شكلّت نظام ما بعد 2003.
هذه مشكلات جوهرية ظلّت النخبُ المثقفة تؤكد عليها طيلة هذه السنوات. لم يتوقف المثقفون الأحرار عن هذا الدور، لقد بقي التأكيد متواصلاً على أن بنية (المحاصصة/ الفساد/الجهل) هي بنية متماسكة في نظام إدارة الدولة ما بعد 2003، ما بعد الحقبة الدكتاتورية، وهي بنية ظلت تنخر النظام، غير عابئة بما بات متوقعاً لها من مصير بائس تنتهي إليه حتماً إنما بنفاد صبر وأمل الشعب بإمكانية التغيير. لقد عجزت سياسة ما بعد 2003 عن تقديم أية مبادرة جادة ليس للانتهاء تماما من هذا الوضع المزري، وإنما حتى عن مجرد تطويق الفساد بكل أشكاله المالية والسياسية والثقافية.
بعد 25 أكتوبر تحوّلت المطالباتُ من مجرد حاجةٍ لخدمات وتنامت سريعاً حتى باتت مطالبات سياسية تنطوي على وجهات نظر صارخة في التعبير عن نفسها ما بين حشود المحتجين. هذا التحوّل المدعوم بكثافة جماهيرية غير مسبوقة هو ما يجعل من هذا الحراك فرصة لإعادة تشكّل الدولة العراقية وذلك بمناسبة جمعتها بها المصادفات التاريخية مع مئوية ميلاد هذه الدولة.
كانت احتجاجات 1920 قد انطبعت بآثار فترتها، من حيث طبيعة تشكل المجتمع العراقي على أسس قبلية وهويّة دينية فاعلة، ومن حيث أسلوب فهم التعبير عن الاحتجاج في تلك الفترة وفي ضوء الثقافة الاجتماعية السائدة، وأيضاً من حيث الظرف التاريخي الحامل لتلك الاحتجاجات. كانت الاحتجاجات، وإن قُمعت، هي الأخرى قدتركت آثارهاعلى طبيعة تشكل الدولة العراقية الوليدة. غالبا ما يتغير أو يعاد بناء الدول وأنظمتها السياسية حين يكون مسبوقاً باحتجاجات شعبية كبيرة. لقد تشكلت الدولة العراقية الحديثة في الربع الأول من القرن العشرين وكانت أصداء احتجاجات 1920 واضحة عليها، سلباً وإيجاباً. قمعت الاحتجاجات لكنها ظلت فاعلة في النسيج الداخلي للدولة الوليدة حتى عبرت تلك الاحتجاجات عن نفسها في تموز 1958 بطابعها الثوري.