لا أحد يختلف على شرعية المطالب الاحتجاجية ودوافعها الاصلاحية المطالبة بمحاربة الفساد والمحاصصة واصلاح وترميم النظام السياسي وفق أسس ومعايير تعتمد الاستقلالية والنزاهة والكفاءة بدلا من التدخلات الحزبية والسياسية في ادارة الدولة ومؤسساتها، التي انتجت وللاسف طيلة السنوات السابقة أخطاءً ونتائج كارثية تفاقمت حتى وصلت الى ماهي عليه الآن حاليا.دخول عدة أطراف دولية واقليمية ومحاولة تسييس هذه التظاهرات الاحتجاجية وحرفها عن مسارها ومقصدها الطبيعي المرتبط بالمطالب الاجتماعية والاقتصادية الى حصان طروادة سياسي، إنّما يمثل محاولة لاختطاف هذه التظاهرات وتسييسها وتحويلها الى منصّة وممر لتحقيق اهداف استراتيجية تتمثل في تصفية الحسابات مع الخصوم الاخرين على الارض العراقيّة.
المحاولات الاميركية الأخيرة لتجيير التظاهرات السلمية وحراكاتها لصالحها يمثل تدخلا خطيرا عبر التدخل المباشر في الشأن الداخلي العراقي من خلال طرح عدد من المبادرات التي تمس النظام السياسي واعادة خلط الاوراق بشكل يؤدي الى اعاقة الحلول وتعميق الازمة مما يؤدي الى اطالتها واستمرارها وبشكل يدخل البلاد في انفاق مسدودة في النهاية قد تؤدي الى تفجّر صراعات وأزمات خطيرة لن يعرف اي أحد نهاياتها.لقد قدمت واشنطن مؤخرا مبادرة تقوم على اجراء انتخابات نيابية مبكرة في سيناريو يشبه السيناريو الفنزويلي والبوليفي الذي ادارته واشنطن بمهارة وقاد الى نتائج كارثية، حين جعلت الاولى بلدا محاصرا ومشلولا بالكامل والثاني بلدا بات يخضع لنفوذ واشنطن وهيمنتها مما سيعني اعادة انتاج السيناريو الشيلي الذي حدث عام 1973 حين اطاحت وكالة الاستخبارات المركزية الاميركية بنظام الرئيس المنتخب (سيلفادور اليندي) وتولي الجنرال بينوشيت السلطة محله والذي قام بمذبحة ضد خصوم واشنطن هناك وما حصل للسوريين ايضا، حين دعمت واشنطن في البداية الاحتجاجات التي تحولت لاحقا الى حرب مدمّرة ما زال الشعب السوري يعاني
منها.
السيناريو اللاتيني تحاول واشنطن اعادته من جديد في العراق عبر ركوب موجة التظاهرات والاحتجاجات من خلال ادّعائها بأنّها تقف الى جانب الجهود الامميّة المطالبة بايجاد حل للازمة التي يعاني منها العراق داعية الى تنفيذ مطالب اعادة الانتخابات بوصفها الحل للازمة دون غيرها وهو موقف يثير الكثير من علامات التساؤل والشكوك بشأن هذه الدعوة وتوقيتاتها بدلا من تبني مبادرات تشجع على دعم الحكومة لتنفيذ اصلاحاتها والمحافظة على أمن واستقرار العراق.بالتأكيد أنّ هذه المبادرات والدعوات التي تحمل وتقدم في ظاهرها حلولا للازمة، لكنّها في الوقت نفسه تخفي أجندات وخطط للسيطرة الناعمة الكلية على العراق من خلال توظيف هذه المشاريع لصالحها في العراق، خصوصا وأنّها تعد العراق بوابة لتعزيز نفوذها في سوريا، إذ تسيطر على المنطقة الشرقيّة من سوريا الغنية بالنفط، فضلا عن محاولاتها قطع طريق الامداد الايراني نحو سوريا الذي يمر عبر الأراضي العراقية وهو هدف تعدّه واشنطن من ضمن اولوياتها الرئيسة في العراق وهو ما يفسّر وجود حرب باردة بين طهران وواشنطن في اكثر من ميدان.
من دون شكّ فإنّ هذه الدعوات والتدخلات الخارجية من اية جهة كانت تعد مرفوضة بسبب انها ترتبط باهداف هذه الجهات وخططها في العراق وليس حرصا على العراق وشعبه وهو ما أكدته مختلف الجهات والرموز الوطنية في العراق وخصوصا المرجعيّة المباركة التي شددت على رفض التدخلات الاجنبية بمختلف مسمياتها باعتبار انها تسعى من وراء ذلك الى تصفية حساباتها مع الاخرين، مؤكدة في الوقت نفسه على ضرورة الاسراع في تنفيذ المبادرات الاصلاحية الهادفة الى محاربة البطالة والفقر والفساد وتنمية الاقتصاد وتطبيق إصلاحات انتخابية ودستورية تسمح بمزيد من المحاسبة للمسؤولين خلال الأشهر الثلاثة المقبلة.
هناك مهام عديدة تنتظر السيد رئيس الحكومة وطاقمه الوزاري، فضلا عن مجلس النواب بالاسراع بتنفيذ حزم القرارات التي صدرت لمعالجة الخلل والاخطاء الفادحة التي تراكمت خلال السنوات السابقة، فضلا عن المحاربة الجادة للفساد والاطاحة برموزه ومافياته واحالتهم الى القضاء وانزال العقوبات المشددة بهم وليس كما حصل سابقا عندما كان من يسرق مبلغا يصل الى مليار دينار عراقي ينال حبساً بالسجن لفترة تصل الى 5 سنوات فقط بينما يتم تهريب المتورطين بتلك الجرائم الى الخارج من دون اية محاولات جادة لاستردادهم. الحل يبقى في النهاية عراقيا والحوار والمبادرات المشتركة الوطنية وتعاون الجميع ووقوفهم الى جانب الاصلاح وتبني المطالب المشروعة ووضع سقوف زمنية لتنفيذها يمثل الحل للازمة والنأي بالبلاد وشعبها من مخاطر الآخرين وتدخلاتهم.