ديناميكيات الحقل الثقافية التاريخي ما بعد الكولونيالية وطبيعة العلاقة بين المجتمع والدين

ثقافة 2019/11/18
...

الكتاب : الليفياثان الإسلامي: عن الإسلام وتشكيل سلطة الدولة
 المؤلف :  سيِّد فالي رضا نصر
ترجمة : خالد بن مهدي
الناشر : مركز نماء للبحوث والدراسات 
 تعد اطروحات  الأكاديمي الأميركي من أصل إيراني ولي رضا نصر في كتابه (اللفياثان الإسلامي: الإسلام وتشكيل سلطة الدولة) التي صدرت ترجمتها عن مركز نماء للدراسات مختلفة في منطلقاتها المنهجية والمعرفية، عن الدراسات الاستشراقية والدراسات المتعلقة حول الدين والدولة في العالم الإسلامي، وتجارب الإسلام السياسي إذ تقوم هذه الدراسات على سلسلة من  المقولات والتصورات النمطية الجاهزة ، كتاب نصر يتناول موضوع الأسلمة والسياسة وإقامة سلطة الدولة في باكستان وماليزيا، بالتركيز على حكم الجنرال ضياء الحق في باكستان العام 1979
ومهاتير محمد في ماليزيا العام 1980، اللذين أعلنا ان الإسلام سوف يشكل (أساس الهوية الوطنية والقانون والعلاقات الاقتصادية والاجتماعية، وأنها سوف تلهم كل صناعة للسياسات)
 
تفاصيل الكتاب 
الكتاب يتكون من مقدمة وثلاثة أقسام: يتناول القسم الأول تشكيل الدول الجديدة، وفيه فصلان، الأول الميراث الاستعماري ويتناول أصول الدولة وتكوينها المبكر في ماليزيا وباكستان، والتجربة الاستعمارية المؤسسة للدولة فيهما، والعلاقة بين الإسلام والمجتمع فيهما. أما الفصل الثاني فيتناول طبيعة السياسة في الدولة منذ الاستقلال، والعوامل التي أدت إلى تطور الموقف بين الدولة والإسلام حتى فترة الثمانينيات من القرن العشرين. أما القسم الثاني فيتناول فترة السبعينيات، حيث عانت الدولتان الاضطراب السياسي والتغيير الثقافي، وفيه فصلان، الأول يدور حول الأزمة التي واجهت الدولة العلمانية في ماليزيا وباكستان بين عامي 1969 و1980، حيث قامت أعمال الشغب في ماليزيا وسقوط نظام أيوب خان في باكستان. ويتناول الفصل الثاني بشكل موسع تحديات الفواعل والتنظيمات الإسلاموية في تلك الفترة. القسم الثالث حول الأسلمة والتنمية واستعادة سلطة الدولة، وفيه فصلان، الأول يتناول ماليزيا بين عامي 1981 و1997، ويركز على الأسلمة والتنمية الرأسمالية، والسياسات والغايات التي حكمتها. والفصل الثاني يتناول باكستان بين عامي 1977 و1997، والأسلمة واستعادة سلطة الدولة، وتأثير تلك الستراتيجات في الدولة والمجتمع، والتنمية والاستقرار.
 
دول ما بعد الكولونيالية  
ورثت دول ما بعد الاستعمار مجتمعات منقسمة كما يقول الباحث : لم تكن السيطرة عليها سهلة من خلال الأيديولوجيا القومية ولاسيما أن النخب الحاكمة كانت أكثر اهتماما بالهيمنة على المجتمع، بدلا من تحقيق مصالحه. ومع انهيار العقد الاجتماعي بين الحكومات والشعوب في هذه الدول بسبب الإخفاق في تحقيق وعود التنمية، لجأت إلى الإسلام تحتمي به وتتخذه واجهة لتحقيق ما فشلت فيه القومية، لكن معظم هذه الدول قد فشلت، إلا بعض الدول القليلة نجحت في تحقيق الهيمنة والنمو عبر تبني الأسلمة.
 
الاسلمة واعادة
 البناء والايديولوجيات 
كيف يمكن للثقافة والدين أن يلبيا حاجيات سلطة الدولة وتنميتها  ولماذا اختارت هاتان الدولتان ( ماليزيا وباكستان) طريق الأسلمة  لبلديهما ؟ وكيف أمكن لدول ما بعد الاستعمار التي كانت ذات مرة علمانية أن تصبح وكيلًا للاسلمة والمبشرة بدولة إسلامية حقيقية؟ الباحث ولي نصر يرى ان أن الأسلمة هي عملية استباقية وليست ردة فعل، فالدولة في البلدان المسلمة لعبت دورا أساسيا في غرز الإسلام في السياسة. وهي لم تفعل هذا فقط جراء الضغوطات من قبل الحركات الإسلامية، بل لتخدم مصالحها الخاصة. فالالتفات للإسلام ليس ستراتيجية دفاعية، بقدر ما هو أحد مظاهر اندفاع الحكومة لإرساء هيمنتها على المجتمع وتوسيع نفوذها وسيطرتها. (فالهوية الثقافية تعتبر أداة يمكن أن تستغل من قبل أصحاب المشاريع السياسية للتنافس على السلطة والموارد، أو من قبل الدول، لبسط هيمنتها على المجتمع ) فالدولة التي تتمتع بهيمنة غير مقيدة ناتجة عن السيطرة الأيديولوجية، لها مطلق الحرية في السعي العقلاني، لتحقيق النمو الاقتصادي. ويبين الباحث ان المصالح الوطنية (الكامنة في الدولة الأمة) حضت زعماء الدولة في البلدين على البحث عن علاقة مختلفة بين الدولة والاقتصاد، وبالتالي بين الدولة والمجتمع. وهكذا افترقت الدولة الاستعمارية الخاضعة لعملية التوطين عن الدولة الاستعمارية بما أنها سعت إلى دعم المركز على حساب وسائط السلطة، فقد سعى زعماء الدولة إلى تعزيز سلطة الدولة، وتوسيع نطاق تغلغلها في المجتمع وسيطرتها على الاقتصاد، وبشكل عام، الى انتاج أجهزة حكم أقوى تستطيع تغيير المجتمع، ودعم التنمية الاقتصادية. إذ كان على الزعماء أن يتفاوضوا مع سماسرة السلطة، والقوى الاجتماعية والاقتصادية بغية زيادة السيطرة المركزية في وجه المقاومة الاجتماعية، وتزويد المجتمع ونظام الحكم برؤية أيديولوجية، بغية التعويض عن نقصها في الميراث الوطني وتسليط ميراثها الاستعماري. وقد شكلت تقلبات هذه العملية الدولة وعلاقاتها بالمجتمع، كما حددت دور الإسلام في
 الحياة السياسية .
 
الإسلمة أداة التماسك
 الاجتماعي والانضباط، 
تناول المؤلف التجربة الماليزية عبر مراحلها الثلاث: من لحظة الاستقلال حتى نهاية الستينيات ثم فترة السبعينيات وتغيراتها الفاصلة، وأخيرا مرحلة الأسلمة من بداية الثمانينيات حتى العام 1997. موكدا (أن الوطنيين الملايو في أمنو قد ورثوا بيروقراطية الدولة الاستعمارية في العام 1957 ووسائطها المختلفين، وبدأوا حكم ماليزيا بمشاركة الأقليات الإثنية من جهة، والزعماء والسلاطين على مستوى الدولة من جهة أخرى، فلم تتمتع الدولة إلا بدور محدود، حاولوا تجاوزه، وتوسيع دور الدولة في الاقتصاد وسلطتها على النظام الاتحادي عبر تجاهل استخدام الخطاب والرموز الإسلامية، بغية خلق صلات حسنة بين مختلف المجموعات الإثنية، لكن مع إخفاقها في تحقيق أهدافها لم تستطع أن تظل غير مبالية بالإسلام طويلا، فقد رأت في الإسلام أداة نافعة لترويج التماسك الاجتماعي والانضباط، والتضامن، والوحدة الوطنية، وأصبحت أمنو منفتحة على الإسلام ) خاصة مع توسع الاضطرابات الاجتماعية في العام 1969، إذ لم يعد أمام زعماء (أمنو) ادعاء الحياد بين
 الطوائف الإثنية . 
 
ماليزيا في حقبة الأسلمة
شهدت ماليزيا كما يؤكد المؤلف خلال فترة الأسلمة فترة طويلة من الاستقرار السياسي؛ فقد انخفض معدل الانقسامات داخل (أمنو) إذ كان بإمكان الحزب ممارسة سلطة فعلية من خلال أغلبية مطلقة لائتلاف حاكم ذي قاعدة عريضة، ووسعت الأسلمة امتداد الدولة ليصل إلى الحياة الشخصية للملايو، وكذلك إلى الانشطة الاجتماعية والاقتصادية التي تم استبعاد الدولة منها حتى ذلك الحين، كذلك أمدت الأسلمة الدولة بمزيد من السيطرة الاجتماعية، ومن ثم أشرفت الدولة على التنمية الاقتصادية ، ورأى الحزب الحاكم بقيادة مهاتير محمد في الحراك الإسلامي وسيلة لتغيير القيم المحلية، ولدعم النمو الاقتصادي، وترويج لقيم ايجابية اقتصادية تدعم النمو، واستعمل الإسلام لترميم الدولة. وحدد جوهر الدولة بكونها دولة إسلامية تنموية، وابتكرت حكومته نهجا متعدد الجوانب لاحتواء الإسلاموية وإدارتها وكبح جماح تطرفها، وهو الأمر الذي منح شرعية للأسس المفاهيمية لمبادرة الأسلمة التي
 أرادها مهاتير.
 
رسم الحدود الواضحة 
استخدمت الأسلمة لتعزيز علاقات الدولة مع المواطنين وشرعت في رسم حدود واضحة للحراك الإسلامي والمؤسسات الاجتماعية، فقبلت بالحركات الدعوية طالما يجتنبت النشاط الراديكالي، وتوسعت الدولة في هيمنتها على الساحة الإسلامية بلا منازع، واستغلت معارضة الإسلاموية للنظام الملكي في توسيع سلطات المركز الاتحادي واستخدامت كوسيلة لنزع سلطة العلماء، وإضفاء الشرعية على الدولة وادعائها التحدث باسم الإسلام عوضا المؤسسات الدينية ، وتولي شؤون الإسلام من قبل إدارة بيروقراطية ليس لها صفة دينية عن طريق مؤسسات الدولة، بل وسعت للسيطرة على تكوين العلماء. طالت سياسات الأسلمة القوانين، والاقتصاد الإسلامي، والرموز الإسلامية، وإنشاء مؤسسات جديدة، وتجديد المؤسسات القديمة، وزيادة جرعة الإسلام في الإعلام، وزادت سيطرة الدولة بنهاية الفترة على المجتمع والاقتصاد بشكل ملحوظ. كما اخترقت الدولة الكثير من الساحات الاجتماعية، وسيطرت على الخطابات الثقافية والدينية. وقد استخدمت السياسة الدينية بنجاح من قبل الدولة لتقليل مقاومة مشاريعها للسلطة والنمو. وكانت الأسلمة خادمة لقيام دولة قوية ومتطورة، وفرت الأسلمة كل ذلك. 
 
باكستان: أسلمة بدون نمو أو تنمية
باكستان، دولة ولدت ضعيفة محملة (بأثقال وميراث الاستعمار السلبي، وورثت نخبة انكليزية (بيروقراطية الدولة الاستعمارية) وحكمت مجتمعا منقسما عبر الوسائط الاجتماعية التي حكمت من خلالها بريطانيا البلاد. غير أن في باكستان لم تطور العصبة المسلمة فقد هيمن الجيش والبيروقراطية في باكستان على الحكم والسلطة )  كان الجيش والبيروقراطية مؤسسات استعمارية، وكانت مواقفهم تجاه السياسة، والسيطرة الاجتماعية، والحكم الصائب هي نفسها مواقف الحقبة الاستعمارية ، ولم يحل تركيز السلطة في البيروقراطية والجيش المشكلات التي واجهت الدولة. فمن أجل ممارسة السيطرة الاجتماعية، وبسط سيطرتها، (لجأت الدولة بسرعة كبيرة نحو زعماء القبائل والنخبة من أصحاب العقارات من جهة، ونحو الإسلام من جهة أخرى. فالالتفات تجاه الإسلام في باكستان كان نتاج محاولات دولة وقعت رهينة للأوليغارشية، المطالبة بالزيادة من سلطتها واستقلاليتها في التصرف )
 
الإسلام ملاذ الدولة 
أصبح الإسلام نتيجة للمشكلات التي واجهتها الدولة، مهما بالنسبة الى السياسة الوطنية في وقت مبكر جدا، وأثر بشكل أكثر مباشرة في تشكيل الدولة. وأثرت الفعالية الإسلامية في الخطاب السياسي الوطني ، ففي بدايات الاستقلال من الخمسينيات حتى نهاية الستينيات، تقلبت سياسة الدولة بخصوص دور الإسلام، (واستخدم الإسلام لأغراض تنموية لا أيديولوجية؛ إلا أن النخبة المسيطرة على الحكم لم تنجح في تكييف الإسلام والسيطرة عليه بسبب القصور في رؤية الدولة، وعدم اقتناع الجماهير بإسلامها، كما أنَّ انهيار سلطة الدولة في أواخر الستينيات جعل من العسير على زعمائها السيطرة على الإسلام بشكل فعال فقد وضع انهيار نظام أيوب خان نهاية لمحاولة بناء دولة علمانية من شأنها أن تسيطر على الإسلام، وتؤسس للتنمية والتغيير الاجتماعي من الاعلى مستخدمة القوة المتمركزة في المركز . 
 
 الدولة تخوض غمار الأسلمة
فشل استعادة السلطة بشكل مرض من قبل الدولة أدى إلى الالتفات للإسلام خلال الثمانينيات بغية خلق استقرار في العلاقات بين الدولة والمجتمع، لتتاح للسلطة الصلاحيات التي خسرتها قرر ضياء الحق أن الدولة هي التي ستخوض غمار الأسلمة لا الجماعة الإسلامية، وستفعل ذلك بدون الاعتماد على أي حزب إسلامي، وستكون هي الوكيل الرسمي للأسلمة، وتضفي الشرعية على الحكم العسكري وتحييد الإسلاموية عبر تشجيع مشاركتهم في الحياة السياسية من خلال المؤسسات. (وضم ضياء الزعماء الدينيين الريفيين والعلماء لتحالفه لدعم الدولة، وتثبيت الشرعية، واستخدم صورته الإسلامية لكسب السيطرة على الأوقاف الإسلامية، ومن خلالها على الأضرحة، واحيا وزارة الشؤون الدينية والأوقاف واستخدمها في اندفاع الدولة نحو المناطق الريفية، وزاد في سيطرة الدولة على المساجد، وعمل على أسلمة الدولة والمجتمع والاقتصاد بفرض قوانين العقوبات الإسلامية، وتدخلت الدولة في المجال الخاص لتنظيم المعاملات الاجتماعية وحياة الأفراد إلى حدٍ لم يسبق له مثيل. وامتد الأمر للتعليم والقضاء والاقتصاد) 
 
مقاومة الأسلمة
واجه النظام العسكري الذي تبنى الأسلمة، مقاومة متصاعدة للأسلمة، وكان غير قادر على إرساء هيمنة تامة على الحياة السياسية. إذ واجه مقاومة حتى قتل ضياء لتجيء بي نظير بوتو .  وبغض النظر عن زخارفها الأيديولوجية والدينية، كانت الأسلمة استراتيجية لتشكيل الدولة، وكانت أداة مفيدة في أيدي زعماء الدولة في معالجة الأزمات التي واجهت الدولة في منعطف حرج، وفي تقوية الدولة وتوسيع امتدادها على حد سواء. وخدمت الأسلمة هدف الدولة في الاستقرار المضمون بنجاح أكثر للسعي في تحقيق النمو الاقتصادي والتنمية في ماليزيا، واستخدمت من أجل استعادة سلطة الدولة في باكستان.