للكتابةِ أغلفةٌ عديدةٌ تبدأ عملَها على طريقةِ قشورِ البَصَلةِ بتلاحقٍ غلافيٍّ متواصلٍ (غلاف يغلّفُ غلافاً)، من تغليف الكاتبِ الحقيقيّ وهو يختفي بغلافِ الكاتب الضمنيّ كي ينفصل عن نصِّهِ بمسافةِ الغلافِ/الحجابِ، والكاتبُ الضمنيُّ هو الآخرُ يختفي خلف حجابِ الذاتِ الإبداعيّةِ المُتجلّيّةِ في مضمارِ النصِّ، ومن ثمّ تقترحُ هذه الذاتُ حين تسعى إلى التقليلِ من غلوائِها الذاتيّةِ أغلفةً أخرى تتناسبُ مع طبيعةِ الجنسِ الأدبيّ ونوعِهِ، حتى تبتعدَ المسافةُ كثيراً بين المؤلّفِ الحقيقيِّ ووجهِ الخطابِ النصّيّ في مواجهةِ المتلقّي.
المتلقّي هو الآخرُ يقومُ بفعّاليّةٍ معاكسةٍ لنزعِ أغلفةِ الخطابِ، النصِّ، الذات الإبداعيّةِ، المؤلّفِ الضمنيّ، المؤلّف الحقيقيّ، حتى يكتشفَ لعبةَ الكتابةِ، ويفضحَ أسرارَها، ويتحرّى عن مقولتِها، ويتعرّفَ إلى خارطتِها، ويتلمّسَ طريقتَها في التنفّسِ وحركةَ الدمِ اللفظيّ في معناها وإيقاعها وحياتِها الداخليّة وهي تتمتّعُ بقدرٍ عالٍ من الخصوصيّةِ، ويدركَ جوهرَها المُشبعَ بالامتلاءِ والكفايةِ والكفاءةِ والفرادةِ والإبداع.
ليلة انتظار
الشاعر بدر شاكر السيّاب هو شاعرُ التجربةِ الروحيّةِ بامتيازٍ، إذ على الرغم من خضوعِهِ لتجربةِ الأغلفةِ في الكتابةِ الشعريّةِ، لكنّه يسعى على نحوٍ أو آخر إلى العبورِ من الأزمةِ الخارجيّةِ للمؤلّفِ الحقيقيّ خارج النصّ نحو كلّ كلمةٍ نصيّةٍ في قصيدتِهِ كي يقول بإصرارٍ وتوكيدٍ واعترافٍ صريحٍ (هذا أنا)، في سياق إخضاعِ الشعريّ للسيرذاتيّ بأسلوبيّةٍ تنفتحُ كليّاً على مجتمعِ التلقّي ليكونَ شريكاً حيّاً في مأساةِ الشاعر، إذ تتحوّلُ النكبةُ الشخصيّةُ الذاتيّةُ من سجنِ الحياةِ (المرض والفقر والشكل) إلى حريّةِ الكتابةِ الشعريّة.
قصيدة ((ليلةُ انتظار)) للسيّاب تنهضُ على بنيةِ تنكيرٍ تضايفيّةٍ، تنتقلُ نحو منطقةٍ نحويّةٍ تعريفيّةٍ لكنّها تبقى متلبّثةً في فضاءٍ تنكيريٍّ بَصَريٍّ وشعريٍّ، فالدالُّ الزمنيُّ في (ليلة) يحتشد بطاقةِ تنكيرٍ تحيلُ على (ألف ليلة وليلة) بوصفها (ليلة انتظار) تعيشُ على أملِ حسمها لاحقاً، وحساسيّةُ الانتظارِ في دالّ (ليلة) تُعلّقُ الحدثَ/الحلمَ إلى زمنٍ قادمٍ قد يأتي بحلٍّ ما في خضمّ الموتِ الزاحفِ نحو الزمنِ والمكانِ والذاتِ الشاعرة، معنى (التعليق) في هذه المناسبةِ العنوانيّةِ هو معنى تنكيريّ يؤجّلُ التعريفَ إلى وقتٍ قابلٍ يسقطُ المضاف إليه فيه بعد أداءِ وظيفتِهِ النحويّةِ (التعريف)، مثل كلّ ليلة من ألف ليلة وليلة وهي تنتهي إلى انتظارِ تعليقٍ حكائيٍّ يتّجهُ نحو ليلةٍ لاحقةٍ في دورةٍ حكائيّةٍ غلافيّةٍ، ينزعُ الراوي فيها غلافاً في كلّ ليلةٍ كي يُخرجَ حكايتَهُ على شكلِ كلماتٍ مرويّةٍ لا تنتهي إلّا بالوصولِ إلى حافّةِ غلافٍ جديدٍ يتأجّلُ نَزْعُهُ إلى ليلةٍ قادمةٍ جديدةٍ داخلَ حفلٍ من الانتظار.
ليلةُ انتظار السيّابِ تذهبُ باتجاهِ موتٍ قريبٍ مُخلّصٍ يُنهي حالة الانتظارِ فتكونُ ليلةً أخيرةً مستمرّة العذابِ بلا نهايةٍ: ((يئستُ من الشفاءِ، يئستُ منه وهدّني التعبُ)) صورةُ (اليأس) مغلّفةٌ باستحالةِ الشفاءِ في توكيدٍ صارخٍ لتحدّي الحياةِ (يئستُ/يئستُ)، ويحيطُ بالصورةِ غلافٌ آخرُ معادلٌ للغلافِ الأوّلِ هو (التعب) بدلالةِ الجملةِ المكتنزةِ دلاليّاً: (هدّني)، كي يتبخّرَ كلُّ النورِ المحتملِ في ظلِّ حلولِ غلافٍ كونيٍّ يتلاءمُ مع صورة اليأسِ ((وحلَّ الليلُ))، لأنّ حلولَ الليلِ يمثّلُ قمّةَ العذابِ لدى اليائسِ إذ تتّحدُ هنا ظلمةَ الذاتِ بوصفها غلافاً للإحساسِ مع ظلمةَ الطبيعةِ بوصفها غلافاً للوجودِ.البقاءُ للكلامِ (قصائدُ) يتحرّكُ في خطاب القصيدةِ بوصفه معادلاً لفناءِ الجسدِ، إذ يؤولُ السيّابُ في نهايةَ الأمرِ إلى (قصائد) فيها ما كان ينقصُ الجسدَ من الثراءِ والصحّةِ والجمالِ، هي كلامٌ مختلفٌ مغايرٌ بلا فقرٍ ولا مرضٍ ولا قبحٍ بوسعهِ أن يعيشَ خالداً إلى الأبد:
((ستبقى - حينَ يبلى كلّ وجهي، كلّ أضلاعي
وتأكلُ قلبي الديدانُ، تشربهُ إلى القاعِ –
قصائدُ.. كنتُ أكتبُها لأجلكِ في دواويني
أحبّيها تحبيني!!))
صرخةٌ عاليةٌ تغلّفُ الجسدَ المتهالكَ تنتهي بتوقيعٍ زمكانيٍّ للذكرى: (الكويت، المستشفى الأميريّ 5/8/1964)، ليبلى الجسدُ تماماً بعدَها بأقلِّ من خمسةِ أشهر: (24/12/1964) ويبقى غلافُهُ الكلامُ (قصائد) تنتظرُ الحبَّ (أحبّيها تحبّيني!!).
غلاف الحب
الحبُّ غلافُهُ الخلاصُ والخلودُ يتجلّى لدى السيّاب في جوهرِ الكلامِ، الكلامُ السيابيُّ قصائدُ تصارعُ الموتَ من أجلِ وجودٍ غيرِ مضمونٍ، فالخلاصُ غلافُهُ الكلامُ حيثُ تحضرُ ثلاثيّةُ (الموتُ/الحبُّ/الكلامُ) في مشهدٍ يبلى الجسدُ فيه، ويكونُ الكلامُ الشعريُّ السيابيّ في حالة انتظارٍ مغلّفةٍ باليأسِ لأجل الحلمِ بإحياءِ الموتى، حصل ذلكَ في (ألف ليلة وليلة) حينَ نهضت الحكاياتُ بهذه المَهمّةِ فكانت غلافاً حاجباً أحيا الحبَّ ومنعَ الموتَ بوساطةِ الكلامِ والسردِ، وليلةُ انتظارِ السيّابِ تتطلّعُ نحو الحبيبةِ الوحيدةِ الباقيةِ غلافاً لحياتِهِ المرّةِ المكتظّةِ بالقهرِ لتحبَّهُ من وراءِ غلافِ الكلامِ (قصائد)، فللحبيبةِ شبكةُ أيدٍ مغلّفةٍ بالحنان والحبِّ وما تبقّى من ذكرياتِ الحياةِ ابتداءً من (يدُ القمرِ النديّةِ بالشذى)، مروراً بـ (كفُّ آلاءِ)، وانتهاءً بـ (كفُّ غيداءِ)، وهذه الأيدي هي الغلافُ الروحيُّ لشخصيّةِ الذاتِ الشاعرةِ الغارقةِ في محنتِها داخل غلاف (ليلةٍ) مغلّفةٍ بالانتظار، وحين تمارسُ القراءةُ نزعَ أغلفةِ الكلامِ غلافاً غلافاً ستصلُ إلى المؤلّفِ الحقيقيّ المتسوّلِ على أبوابِ قصائده يستجدي حبّاً ممنوعاً.
القصائدُ بديلٌ لا يموتُ حين يموتُ الجسدُ فتتلبّثُ الذاتُ الشاعرةُ الحيّة في جوهرِ الكلامِ (قصائد) بديلاً عن المؤلّف الحقيقيُّ المتكوّمِ على ضفافِ الانتظارِ بجسدٍ محطّمٍ، وعلامتُهُ المؤلّفُ الضمنيُّ المنهمكُ بالكلامُ الذي لا يموتُ، السيّابُ الشاعرُ غلافُهُ الذاتُ الشاعرةُ الطالعةُ على أرضِ الكلامِ من ضلعِ المؤلّفِ الضمنيّ، وغلافُ الذاتِ الشاعرةِ هو الحبُّ وقد تجسّدَ في ظلِّ كيانٍ كلاميٍّ تجتاحُهُ أعاصيرُ الموتِ القادمةِ من كلِّ حدبٍ وصوبٍ، على شكلِ ذكرياتٍ عن أيدٍ حانيةٍ تتوسّلُها الذاتُ الشاعرةُ لإطالةِ ليلةِ الانتظارِ، أمّا غلافُ الحبِّ فهو ليس سوى الكلامِ في هيئتِهِ الشعريّةِ (قصائد) حيثُ تستقرُّ الحكايةُ على رأسِها، كي تكونَ العلاجَ الأخيرِ الذي يُهدّئُ من غلواءِ مجاورةِ الموتِ ولا يُنقذُ الجسدَ الذي يفقدُ طاقةَ الصمودِ لحظةً بلحظةٍ، فيتعالى جبلُ الكلامِ المشحونِ بالحنينِ والاسترجاعِ حتى تنزعَ بصلةُ النصِّ/القصيدةِ آخر أغلفتِها وينمحي وجودُها إلى
الأبد.