سؤال طرحه بعض المحدثين العرب في القرن التاسع عشر، ويسوق الكثيرون إجاباتهم تقليديَّة عنه، كالتي تؤكد أننا تركنا ديننا فأصابنا الهوان، أو أننا تمسكنا بماضينا أكثر مما ينبغي، أو أننا أخذنا من الغرب القشور وتركنا اللب من دون أنْ يكلف البعض نفسه في البحث في جذر المشكلة وهي غياب المعرفة عنا، واليوم يتكرر السؤال نفسه لنجد عنه إجابات مختلفة نسبياً عما ساقها بعض المفكرين من إجابات مختلفة إزاء ذلك على الرغم من بعض الإجابات تكرر بالكيفيَّة ذاتها التي أجاب عليها البعض في القرن الماضي، إذ بعضهم ربطها بالسلوك الذي وصل إليه الإنسان العربي أو المسلم من الابتعاد عن دين الله أو بتأثير العادات والتقاليد الاجتماعية باعتبارها معوقات لتبني قيم الحداثة، وذهب آخرون إلى إرجاع ذلك الى افتقار المجتمعات العربية أو الإسلامية إلى نظم تحديثيَّة، وجثمت على صدورها نظم تقليديَّة قبليَّة في أصلها أو أصولية أو أسريَّة عطلت قيام النظام الديمقراطي في بلدانهم، بل إنها عملت على قهر الإنسان، فضلاً عن أسبابٍ كثيرة صاغها بعض الكتاب والمفكرين، ولعلنا نجد في بعض هذه الأسباب جانباً من الصحة، إلا أنَّ الإجابة التي يمكن مناقشتها هنا، كيف كانت طبيعة النظم الاجتماعية التي كانت ترزح تحت الحكم العثماني؟ تلك النظم التي تراجعت ثقافياً وفكرياً في القرن الثامن عشر والتاسع عشر تراجعاً كبيراً في المجالات المختلفة حتى انتفض رجالات ومفكرون من النظام العثماني نفسه مؤسسين جمعيات ومنتديات ومجلات وصحفاً تدعو إلى التحديث وتطالب بدستور جديد يضمن حرية الإنسان متأثرين بعصر النهضة في أوروبا
آنذاك.
الحداثة في الغرب
لعلَّ تأثير الحداثة بعد الثورة الصناعيَّة في انكلترا والثورة الفرنسيَّة، كان كبيراً ومدوياً في عالمنا الإنساني، وكلا الثورتين هما بمثابة خطين متوازيين صنعتا حضارة الغرب، فالأول متمثل بالثورة الصناعية التي أعطت للجوانب التكنولوجية والفنية مكانة بارزة في دفع المجتمع الأوربي الى الحداثة والتغير مسبوقة بثورة علمية قبل أنْ تبدأ حركة التصنيع، والخط الثاني هو الخط الفكري الذي مثلته الثورة الفرنسية حينما دعا مفكروها الى المساواة والحرية فكانت الأفكار الرومانسية والتحررية والاشتراكية تحدث تغيراً دراماتيكياً في العقلية الأوروبية حتى امتدت تأثيراتها الى مناطق العالم المختلفة، مثلما امتدت إنجازات التصنيع الى مجتمعات مختلفة، وهكذا انطلقت الحضارة الأوروبية بعد تقويض سلطة الكنيسة وظهور العلمانية في الدولة الأوروبية الحديثة مؤثرة في التيارات الفكرية في مختلف البلدان، وهكذا ظهرت الدولة الوطنية في بلاد العرب، ومنها العراق بعد سقوط الدولة العثمانية التي كانت كمثل غيرها من الامبراطوريات الإسلامية تقول إنَّ بلاد المسلمين للمسلمين وهكذا.
تغير سريع
أثرت الأفكار التحديثيَّة في المجتمعات التقليديَّة، وقد تمكنت بعض المجتمعات بمساعدة الاستعمار الغربي مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين من نقل تجربة الدولة الوطنية والقومية فكانت الوطنية والديمقراطية والقومية والاشتراكية وغيرها مصطلحات جديدة على ثقافة بلداننا.
لم تكن الأفكار الغربية الرأسمالية وحدها تلعب دور المغير، بل إنَّ الأفكار الاشتراكية هي الأخرى لعبت دوراً جديداً في نقل مصطلح الاشتراكية الى بلداننا، وقد عاشت المجتمعات الشرقية صراعاً اجتماعياً وفكرياً حول ذلك حتى أنها لبس بعضها ثوب الرأسمالية والحرية الفردية، وبعضها الآخر لبس ثوب الاشتراكية وتُقدس الملكية الجماعية.
إنَّ هذا الواقع حجب عن مجتمعاتنا تحقيق نهضة تنبع من ثقافتها، إذ أدى الى تعطيل النهضة العربية والإسلامية، فانشغلت عن المعرفة بالآيديولوجية، سواء الرأسمالية أو الاشتراكية.
سبب تأخرنا
لعلَّ من أبرز الأسباب التي يمكن صياغتها في هذا المقام هو غياب الاهتمام بالمعرفة العلمية والانصراف الى الشعر والخطاب بطريقة مبالغ فيها، وسيادة الأفكار التقليديَّة التي تقدس الماضي من دون إيجاد آليات مقننة لنقده وفحصه، بينما الغرب تبنى المعرفة فكراً وتطبيقاً ونحن قلدنا ذلك من دون فهم حقيقي لآليات وطرق تفكير العقل الغربي في بيئته، ولم تتمكن مجتمعاتنا أن تتبنى المعرفة العلمية في تغيير الواقع الاجتماعي، إذ غابت الحركة العلمية بعد قرون مضت من جهود العلماء العرب والمسلمين ابان القرون الوسطى، إذ كانت علوم هؤلاء نبراساً لنهضة الغرب العلمية والفكرية، وبقينا في مكاننا نراوح ونفتخر لفظاً بتك العلوم التي تعلم منها الغرب ولم نتعلم نحن منها شيئاً.
عالم جديد مفتوح
نعيش اليوم في عالم يفتح أبوابه على مصراعيه للمعرفة الفنية والعلمية، إذ كانت الثورة المعلوماتية في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين ممهدة لثورة الثورة الاتصالية العملاقة التي تحكم العالم اليوم، وأيضاً بقينا نراوح مكاننا من دون تحقيق إنجاز حضاري يشبع حاجات إنساننا على الرغم من امتلاك بلاد العرب وحدها ستين بالمئة أو أكثر من مصادر الطاقة في العالم، وانشغلنا بأنفسنا وصراعاتنا الداخلية من دون أنْ نقدم للإنسان في بلداننا إنجازات حقيقيَّة تنقله فعلاً الى عصر الحداثة، وحتى الدول الخليجيَّة النفطية التي حققت قفزات عمرانية وشيدت مدناً حديثة التي هي نفسها لم تكتمل فيها آليات الحضارة الخلاقة المنتجة، فهي حديثة في مظهرها، تقليدية في مضمونها حتى أنَّ أجيالها الجدد يعيشون اليوم حالة وسطية بين الحداثة والتقليد، ما خلق فجوات ثقافية كبيرة لا يمكن ردمها بسهولة من دون تحقيق نهضة تصنيعية وفكرية، وهو أمر صعب المنال على الأقل على مدى المستقبل المنظور.
صراعات بلا فائدة
تعيش المنطقة العربية صراعات وهمية بين أقلياتها ومذاهبها وأعراقها مبتعدة عن تبني أصل أسباب النهضة وهي المعرفة التي تقود حتماً الى رقي الإنسان وترسي قواعد السلوك الحضاري والديمقراطي، ولعلَّ في هذا الجانب تهدر الأموال الطائلة في تغذية هذه الصراعات الوهميَّة تاركة الإنسان يعاني من نقص شديد في حاجاته الأساسيَّة، وحتى تلك الدول التي حققت جانباً مهماً من احتياجات الإنسان المادية فشلت في تحقيق نهضة فكريَّة ومعرفيَّة ترتقي بالإنسان الى مستويات مقدرة من الحضريَّة والتقدم.