تفكيك شرانيَّة الأوهام في المجتمع
ثقافة
2019/12/03
+A
-A
د. رسول محمد رسول
يرتبط إنتاج الأوهام لدى الفرد والمجتمع بحالة الالتباس اليومي القائمة على الأحكام المسبقة التي تأخذ المرء إلى متاهات الإبهام الذي ينتج بسبب العمى عن الأساس الخير لديهما – الفرد والمجتمع - فالوهم، وكذا الأوهام (Idols)، ظاهرة فردية/ مجتمعية وليست مجرد حالة مرضية نفسية متفردة لدى شخص بعينه.
أوهام
وكان الإنكليزي فرنسيس بيكون من أوائل الفلاسفة الذي صنفوا أوهاماً لدى البشر كأوهام القبيلة Tribes، وأوهام الكهف Cave، وأوهام السوق Market place = Fore، وأوهام المسرح (Theatric) (1). والفيلسوف هو الناقد الذي يراعي يوميات العيش في الوجود غير بعيد عن إشكالية الأوهام التي تتحكّم بالإنسان على نحو أعمى، لذل نحن نُعد الأوهام، وفي أحيان غالبة، هي مصدر الشر في الوجود وفي حياة الإنسان، ومنبع التسرُّب الكارثي المؤذي لهما، لأن الوهم يجتر مقولة "هذا الذي لنا من قبل" (2)، فيجربه الواهم قبلياً وينخرط فيه بنشوة ونرجسية. ولنا أن نتذكّر مقولات الشر في تراثنا العربي؛ ذلك أن القتل على الظنة كان سائداً لدى بعض حكّامنا العرب المسلمين وغير المسلمين، وكلها تعني حجب أصالة الخير لدى الإنسان، الخير الذي صدحت به واحدة مقولات القرن الأول الهجري "عدم العقوبة على الظنة والتهمة" (3)، فمالي أتوسّم شراً بالوهم بينما اليقين أكثر خيريّة وأكثر ارتياحًا؟
في مجتمعنا العراقي، سادت الأوهام عملياً منذ القرن الأول الهجري، وتالياً في خلال القرن العشرين والقرن الذي يليه، لا سيما بعد نيسان/ أبريل 2003؛ بل ومثلما وكانت فهي لا تزال تؤدي بشاعتها السوداء بتهميش الآخر وتغييب موجوديته، ومن ثم قتله بطقوس دميمة. ولا غرابة في الأمر؛ كانت الحروب المتتالية - حرب الثمانينيات والتسعينيات - والحصار الاقتصادي الدولي على العراق في نهاية القرن العشرين، ومن ثم الحرب الثالثة 2003، والحرب الرابعة المتمثلة بالطائفية المذهبية، فضلاً عن العرقية في القرن الحادي والعشرين، كل هذه الكوارث كانت ولا تزال مؤدّيات شحنت بنية الوهم في الذات العراقية حتى صارت - الأوهام - تمشي كالطاووس المغتر بذاته أو كالعقرب المسموم مزهواً بخبثه، والأنكى أنَّ تصريف الوهم بين الناس تقوم به نُخب وقد تحصّلت على تعليم وتعليم عالٍ، ورجال دين زائفون يتاجرون باسم الله، وفتات بشر رعاعي بصقت به إيديولوجيات البشاعة المسلحة وغير المسلحة إلى الناس حتى يصرفوها في مسرح الحياة كسردية لا مندوحة منها تعج بالزيف كمعرفة بحسب الطلب، لا سيما أن هؤلاء الرعاع يعتقدون بأنَّ "الفهم البشري ليس مجبولاً من ضياء صرف" (4) حتى تتزعمه الموضوعية البيضاء الخالية من دغش أهواء الأنا، إنما الفهم البشري هو كالحرباء؛ متلّون، ومتقلّب، ومخاتل لا يستحي من إراقة الدماء.
تجربة رائدة
في منتصف خمسينيات القرن العشرين تنبّه السوسيولوجي العراقي الرحل الدكتور عبد الجليل الطاهر (1917 - 1971) إلى بنية الوهم في الذات العراقية؛ بل شيوعها عملياً، فتصدّى لها دارساً إياها في كتابه (أصنام المجتمع.. بحث في التحيّز والتعصّب والنفاق الاجتماعي)، هذا الكتاب الذي ولد في ظل بحوث الدكتور الطاهر في سوسيولوجيا المجتمع العراقي؛ إذ أصدر في سنة 1953 كتابه (المشكلات الاجتماعية في حضارة متبدّلة)، ومن ثم أصدر كتابه (البدو والعشائر في البلاد العربية) في سنة 1955، ليصدِر كتابه (أصنام المجتمع) في سنة 1956. وفيما قرأت لهذا السوسيولوجي البارع أعتقد أن عبد الجليل الطاهر هو من المفكّرين السوسيولوجيين الأساسيين في مجال تخصّصه، أولئك الذين أرادو وفعلوا "الغوص إلى أعمق نقطة في شيء ما، وهذا أكثر قيمة من مجرّد الهبوط إلى عمق الأشياء فقط"؛ وهذا تمييز سبق وقاله الفيلسوف الألماني فريدريش نيتشه (5) عندما قدّم تصنيفاً لطبقات المفكِّرين: المفكّرين السطحيين، والمفكّرين العميقين، والمفكّرين الأساسيين، ومفكّري المستنقع. لقد جعل الطاهر من الوهم صنماً (Idol) حتى إنه يقول: "تظهر في ظروف مادية اجتماعية معينة أصنام تقف حجر عثرة في طريق المعرفة الموضوعية، وتمارس سيطرة ونفوذاً على تفكير الإنسان وطريقة معالجته للموضوعات، وحين تنشر الفئة الاجتماعية خرافة أو وهماً أو فكرة، فإنها تربطها بمفهوماتها العامة عن الحياة التي انبثقت من الحالة الاجتماعية، والتي تتميز بوجود الأصنام، فتتعصّب لها، وتتهم كل فكرة معارضة لا تتفق وتلك المفهومات بالمروق والانحراف والهدم والشذوذ حتى تظهر تلك المفهومات، فتصبح أوهاماً تمنع الفئة الاجتماعية المذكورة من استحسان ما لدى الآخرين من آراء وقيم، فينشأ حال من القلق، والارتباك، والشك، والتهاتر، والرياء، والنفاق، وتضيع المقاييس الخُلقية" (6).
المعنى المعارفي
لا يخرج الطاهر عن اشتغالاته السوسيولوجية، ونلاحظ أنه يعطي للمعنى المعارفي أو الأبستمولوجي أهمية خاصّة عندما يتحدّث عن "المعرفة الموضوعية" في مقابل المعرفة الأهوائيّة السلبية في جانبها لا سيما الرعاعي لدى الكائن البشري، لكن عبد الجليل الطاهر يبقى يتحدّث عن الفئة الاجتماعية، وهذا منحاه السوسيولوجي الذي يراقب بقدر ما يستقرئ الفئة الاجتماعية وضمنها الفرد عندما يتعصّب للأوهام أو الأصنام المركوزة في هواه وفهمه وذهنه وذاته ونفسه، ويجعلها آلهة مقدّسة "تتغلغل في ضمائر الناس وعقولهم" كما يقول بالحرف الواحد (ص 6)، ويروم هذا الفرد المغتر بوهمه إشاعتها بوصفها ثوابت يروِّج للانطلاق منها في محاكمة الآخرين على نحو إلغائي قمعي إقصائي يحبل بالظلم واللاعدالة، ولا يراعي الشرع الديني، لا سيما عندما قال الله {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} (الحجرات: 13)، بينما الواهم لا يؤمن بالتعارف القرآني ويدعي إسلاميته، وكذلك لا الدستوري الوضعي في القانون العراقي الجديد، كما القديم، حيث مبدأ المواطنة، ففي الدستور الجديد نقرأ: "يحظر كل كيانٍ أو نهجٍ يتبنى العنصرية أو الإرهاب أو التكفير أو التطهير الطائفي" (المادة 7 أولاً)، ليصبح الأمر مروقاً خارجاً عن المنطق والمعقول والضمير والعدالة هذا الذي تتمادى به نفسيّة الواهم.
ـــــــ
1. انظر كتابه: (فرنسيس بيكون: الأورجانون الجديد، ترجمة: عادل مصطفى، فص 39، ص 28 - 29، رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة، 2013).
2. مارتن هيدغر: الأنتولوجيا تأويليات الحدثية، ترجمة محمد أبو هاشم محجوب، ص 235، مؤمنون بلا حدود، الرباط، 2018.
3. محمد الريشهري: موسوعة الإمام علي في الكتاب والسنة والتاريخ، ج 4، ص 275.
4. فرنسيس بيكون: الأورجانون الجديد، ترجمة: عادل مصطفى، فص 49، ص 35 - 26، رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة، 2013.
5. فريدريش نيتشه: الفجر، ترجمة: محمد الناجي، فص 446، ص 232، أفريقيا الشرق، الدار البيضاء، 2013.
6.د. عبد الجليل الطاهر: أصنام المجتمع.. بحث في التحيّز والتعصّب والنفاق الاجتماعي، ص 5 – 6، المركز الأكاديمي للأبحاث، العراق – كندا، 2016.