القول الفصل في حكم الدستور باستقالة رئيس الوزراء

العراق 2019/12/04
...

د. حسن الياسري
 
أوضحتُ في منشورٍ سابقٍ الخطوات الدستورية التي يتعيَّن اتباعها بعد إعلان استقالة رئيس الوزراء ، ووعدتُ بأن يكون التفصيل لاحقاً . وفي غضون المدة المنصرمة اطلعتُ على بعض الآراء التي قام بنشرها البعض بشأن الموضوع، تلك الآراء التي لم تكن في فهمها صائبةً، ولا في توجهها موفقةً. وعلى الرغم من قيام مجلس النواب بالتصويت على الاستقالة؛ بيد أنَّي أجد من الضروري التطرق إلى الموضوع؛ إيضاحاً للحقيقة، ورفعاً للتوهم الذي وقع فيه المجلس، ولئلا يتحوّل سلوك الأخير في هذا الشأن إلى عرفٍ، واستجابةً لبعض الطلبات التي وردتني طالبةً الإيضاح. وفي هذا الصدد يبدو من الضروري بيان الملاحظات الآتية قبل الدخول في صلب الموضوع:
١- إنَّ كل الآراء التي تطرح في هذا الباب هي محل احترامٍ وتقديرٍ، ما دام الأمر محلاً للاجتهاد؛ على أنْ يكون الاجتهاد وعرض الرأي من متخصصٍ ومطَّلِعٍ عن كثبٍ؛ لأنَّ الرأي هنا يتعلق بأمرٍ دقيقٍ وخطيرٍ وحساسٍ، وهو الدستور. 
 
٢- للأسف ما زال البعض يعتقد أنَّ مجرد كونه قانونياً (أستاذاً أو محامياً أو قاضياً) يجعله خبيراً في الدستور، ويمنحه القدرة على تفسير نصوصه، فما على المحامين – مثلاً -  الذين يعرض أحدهم نفسه  (خبير قانوني) سوى إضافة (ودستوري) ليُشرِّقوا ويُغرِّبوا كما يحلو لهم، وكأنَّ متابعة القضايا المدنية والجنائية في المحاكم تُحوِّلهم إلى خبراء في الدستور؛ وهذا أمرٌ في غاية السخرية، ولا يحدث إلاّ في هذا البلد، الذي لا يستقيم فيه شيءٌ !! إنَّ تفسير الدستور يحتاج إلى خبرةٍ حقيقيةٍ في الاطلاع على نصوصه، ومتابعة موقف الدساتير المقارنة عن كثبٍ، فلا تستغربوا إذا سمعتم أنَّ - بعض - المتخصصين في تدريس مادة ( القانون الدستوري ) في كليات القانون العراقية لا يمتلكون هذه المكنة أيضاً؛ ذلك أنَّ الدستور العراقي قد خرج عن القواعد العامة في الفقه الدستوري في بعض أحكامه، وأنَّ كليات القانون ما زالت تقوم بتدريس القواعد العامة المسطّرة في الكتب المنهجية منذ عقودٍ، مع أنَّ بعض هذه القواعد قد تغيرت في بعض التجارب البرلمانية الحديثة، فضلاً عن تغيير بعضها في الدستور العراقي؛ ولذا ألاحظُ منذ إقرار دستور عام 2005 وحتى الآن أنَّ - بعض - هؤلاء المتخصصين لا يحيطون علماً بأحكام الدستور العراقي ، فما بالك بغيرهم !!
 
٣- وبالنظر لما تقدم، ولضعف الثقافة الدستورية في العراق، فقد قام بعض الإخوة بتفسير نصوص الدستور مؤخراً قياساً على ما يجيدونه من فروع القانون الأخرى، كالقانون الإداري والقانون المدني مثلاً؛ فلقد قام بعضهم بقياس أحكام الاستقالة الواردة في قانون الخدمة المدنية على استقالة رئيس الوزراء، وكأنَّ الأخير موظفٌ في الدرجة الخامسة يتعيّن عليه أخذ موافقة رئيسه الأعلى.
ولا أدري أي استدلالٍ بهذا المستوى الذي يقيس قانون الخدمة المدنية المتعلق بتنظيم أحكام الموظف والوظيفة على الأحكام المتعلقة بتنظيم هيكل الدولة وسلطاتها
الدستورية!!.
وقام البعض الآخر بقياس الأحكام والقواعد العامة في القانون الإداري – تنظيم علاقة الموظف بالإدارة – على علاقة رئيس الوزراء بالبرلمان.. وغير ذلك من الآراء الغريبة التي تعطي جميعها انطباعاً بعدم تعمق هؤلاء بأحكام الدستور، ومحاولتهم سدّ هذه الخلّة والنقص بما يجيد كل واحدٍ منهم من علمٍ أو فنٍ !!. 
وبناءً على ذلك أكرر رجائي للمرة الثالثة على التوالي لهؤلاء الإخوة الأعزاء بعدم تشتيت الرأي العام بمثل هذه الآراء المجانبة للصواب، والإعراض عن الخوض في مثل هذه الأمور، إلا إذا كان المتصدّي خبيراً بحقٍ في الدستور، ومطَّلعاً عن كثبٍ على أحكام الدستور العراقي والدساتير المقارنة، لا مجرد كونه قانونياً؛ لكي لا يتسبَّب في تضليل الرأي العام من حيث لا يشعر، ولا سيما في هذه المرحلة الحسَّاسة، مع اعتذاري الشديد من هذه اللهجة!!.
هل تحتاج استقالة رئيس الحكومة – الوزراء - إلى موافقة مجلس النواب أو رئيس الجمهورية بمقتضى أحكام الدستور
 العراقي؟.
لا يخفى عليكم ما ذهب إليه البعض من ضرورة تقديم هذه الاستقالة إلى مجلس النواب كي تقترن بموافقته عبر التصويت، كما لا يخفى عليكم ما ذهب إليه البعض الآخر من ضرورة تقديمها إلى رئيس الجمهورية؛ مستدلِّين على ذلك بعدة أدلةٍ، هي :
 
١- سكوت النص الدستوري.
فما دام هذا النص ساكتاً عن بيان الجهة التي يُقدِّم إليها رئيس الوزراء استقالته؛ لذا لا يمكن للأخير الاكتفاء بمجرد الإعلان عنها، بل لا بد من تقديمها إلى مجلس النواب أو رئيس الجمهورية كي ترتب
آثارها.
 
٢- القياس على ما ورد في القواعد العامة في القانون الإداري وقانون الخدمة المدنية.
فهذه القواعد تقضي أنَّ من يملك صلاحية التعيين يملك صلاحية الإقالة، وحيث إنَّ مجلس النواب هو من عيَّن رئيس الوزراء – منحه الثقة - ؛ لهذا يجب أنْ تقترن الاستقالة بموافقة الرئيس الأعلى، وهو هنا المجلس – على حد قول بعضهم -، أو رئيس الجمهورية – على حد قول بعضهم الآخر - ؛ لكونه هو من قام بتكليفه .
 
٣- قياس حكم الاستقالة على حكم الإقالة – كما يُعبِّرون – وسحب الثقة.
فكما يجب أنْ يصوّت مجلس النواب على إقالة رئيس الوزراء؛ يجب أنْ يصوّت أيضاً على قبول استقالته عند تقديمها.
وبكلمةٍ صريحةٍ فصيحةٍ، إنَّ هذا الرأي بتفاصيله كلها، غير صحيحٍ البتة، ولا يستقيم مع أحكام الدستور العراقي، بل ولا مع القواعد العامة في النظام
البرلماني.
وإنَّ استقالة رئيس الوزراء تعدُّ نافذةً بمجرد الإعلان عنها، دون أنْ تُعلّق على شرطٍ، أو تُشفع بموافقة أي جهةٍ كانت، كما ورد في منشورنا – الموجز – السابق .
وإنَّ دليلنا على صحة هذا الرأي، وعدم صحة الرأي الأول المخالف – مع التقدير لأصحابه – ليكمن في جهتين :
 
الجهة الأولى: تقويض أدلة الرأي الأول المخالف.
 
الجهة الثانية: الأدلة الأخرى الدالة على عدم حاجة رئيس الحكومة – الوزراء – لاستحصال موافقة أي جهةٍ أخرى على استقالته.
وسنفصّل القول في الجهة الأولى الآن، ونذر الأخرى إلى الجزء الثاني إنْ شاء الله.
 
الجهة الأولى: تقويض أدلة الرأي الأول المخالف:
بالإمكان دحض حجج الرأي الأول الذاهب إلى وجوب تقديم الاستقالة إلى مجلس النواب أو رئيس الجمهورية بيُسرٍ ما بعده عُسر، وكما يأتي:
أولاً: سكوت النص الدستوري عن بيان الحكم:
إنَّ هذه الحجة واهنةٌ، لا تستند إلى ركنٍ وثيقٍ، ولا يمكن التسليم بها؛ للأسباب الآتية:
 
١- إنَّ سكوت النص الدستوري عن بيان حكمٍ ما لا يكون وحده دليلاً، ما لم يُشفع بأدلةٍ وقرائن أخرى.
هذا من جهةٍ، ومن جهةٍ أخرى إنَّ سكوت النص يفضي بنا إلى إعمال وسائل التفسير المعروفة.
ولعلّ المتخصص يعلم أنَّ من وسائل التفسير القياس ما لم يتعارض مع أدلةٍ صريحةٍ أخرى. 
ولكي يؤتي القياس ثماره ينبغي أنْ يكون على وفق الأسس العلمية، تلك الأسس التي تقول إنَّ إعمال قاعدة القياس هنا يقتضي أنْ يكون بالنظر إلى القواعد العامة في الفقه الدستوري والأنظمة البرلمانية، لا القواعد العامة في القانون المدني أو القانون الإداري أو قانون الخدمة المدنية.
ولقد تبيّن أنَّ الرأي الأول قد وقع في ذلك، فقاس حكم استقالة رئيس الوزراء على ما ورد في القواعد العامة في القانون الإداري أو قانون الخدمة المدنية؛ وهو خطأٌ بيِّنٌ !!
 
 ٢- لو افترضنا أنَّ المشرِّع الدستوري رام إلزام رئيس الوزراء بتقديم استقالته إلى جهةٍ معينةٍ، كمجلس النواب مثلاً؛ فإنَّ ذلك ينبغي أنْ يكون مدعاةً للنص عليه صراحةً، لأهمية الأمر من جهةٍ، ولأنَّ الدستور نظّم أموراً أخرى أقلَّ أهميةً بنصٍ صريحٍ، كما فعل ذلك في المادة ( 75/أولاً ) التي أجازت لرئيس الجمهورية تقديم استقالته إلى مجلس النواب. فإذا كان الدستور ذكر بنصٍ صريح أمراً جوازياً، فما باله ترك أمراً آخر وجوبياً، مع الأخذ بالاعتبار الفرق الكبير بين الدور والمسؤولية الخطيرة التي ينهض بها رئيس الحكومة، والدور والمسؤولية الأخرى التي ينهض بها رئيس الجمهورية؟
بل أكثر من ذلك، حتى لو كان تقديم استقالة رئيس الوزراء إلى مجلس النواب أمراً جوازياً لا وجوبياً - كحالة رئيس الجمهورية -، فلِمَ لَمْ ينص الدستور على ذلك كما نصَّ على مثيل هذه الحالة – استقالة رئيس الجمهورية - ؟!!
ألا يدلُّ ذلك كله على أنَّ الدستور قد أحلَّ رئيس الوزراء من كل قيدٍ أو شرطٍ بصدد تقديمها !! وليت شعري كيف فسروا السكوت هنا بالوجوب؛ مع أنَّ أيسر القواعد تؤكد أنَّ الوجوب يستلزم نصاً صريحاً، ولا يمكن الأخذ به لمجرد سكوت النص، فكيف إذا الكلام هنا يتعلق بالدستور
وأحكامه !! 
 
 ٣- ثم إذا كان سكوت النص عن بيان الجهة التي تُقدَّم إليها الاستقالة يخوِّل البعض مكنة الاستدلال على وجوب أنْ تكون الاستقالة مشفوعةً بموافقة البرلمان أو رئيس الجمهورية دون أنْ يكون لهم دليلٌ آخر يعضد هذا الاستدلال أو قرينةٌ قويةٌ تدفع إليه؛ فإنَّ استدلالنا على أنَّ سكوت النص يعني التحلّل من تقديمها إلى تلك الجهات مع وجود أدلةٍ أخرى لدينا – سنذكرها فيما بعد - يكون من بابٍ أولى. وبالمحصِّلة تسقط حجة سكوت النص التي استدلوا بها من هذه الجهة، بلحاظ ما ذكرنا، وما سنذكره فيما بعد .
 
ثانياً: القياس على أحكام القواعد العامة في القانون الإداري وقانون الخدمة المدنية:
لقد تجلى في الفقرة المتقدمة – أولاً- أنَّ القياس لا يؤتي ثماره إلا إذا كان على وفق الأسس العلمية المتعارف 
عليها.
وإذْ كان الرأي الأول المخالف لم يقم وزناً لتلك الأسس، وقام بقياس أحكام الدستور على القواعد العامة المنظمة لعلاقة الموظف بالإدارة، ولم يقم بالقياس على القواعد العامة الواردة في الفقه الدستوري والأنظمة البرلمانية في التجارب الدولية؛ فيكون قياسه واستدلاله ساقطاً من الأساس، ولا قيمة له البتة؛ بل ويثير الكثير من علامات التعجب 
والاستغراب !!
وللحديث تتمة إنْ شاء الله لذكر الحجة الثالثة ودحضها.