القول الفصل في حكم الدستور باستقالة رئيس الوزراء 2 - 2

العراق 2019/12/09
...

د. حسن الياسري
 
لقد تطرقنا في الجزء الأول إلى ذكر أدلة وحجج الرأي الذاهب إلى وجوب تقديم استقالة رئيس الوزراء إلى مجلس النواب لغرض التصويت عليها ، أو تقديمها إلى رئيس الجمهورية . وذكرنا أنَّ هذه الحجج يمكن أنْ تُدحض عبر جهتين . وقد تناولنا الجهة الأولى التي عرضنا فيها اثنتين من الحجج ورددناهما ، وهما المتعلقتان بغياب أو سكوت النص الدستوري عن ذكر الجهة التي تُقدَّم إليها الاستقالة ، وقياس حكم الاستقالة على القواعد العامة في القانون الإداري وقانون الخدمة المدنية
واليوم سنتطرق إلى الحجة الثالثة لمناقشتها والرد عليها .
ثالثاً : قياس حكم الاستقالة على الإقالة وسحب الثقة :
وهنا تُسكب العبرات ، ويزداد ألمنا من الواقع الدستوري في العراق .
فلو تنزّلنا عن كل ما مضى في الفقرتين السابقتين ( أولاً وثانياً ) من استدلال الرأي المخالف المشار إليهما في الجزء الأول واكتفينا بهذه الفقرة فحسب – ثالثاً - المتعلقة باستدلالهم ؛ لكان ذلك يُمثِّل وحده طامةً في الفكر الدستوري بلا مبالغةٍ !!
فلقد جنح الكثيرون ممن أدلوا برأيهم في الموضوع للاستدلال بوجوب تقديم رئيس الوزراء استقالته إلى مجلس النواب استناداً لما ورد في نص المادة ( 61/ثامناً/3 )من الدستور، المتعلقة بسحب الثقة من رئيس الوزراء .
إذ تعدُّ الحكومة بمقتضى هذا النص مستقيلةً عند سحب الثقة من رئيس الوزراء ، ولما غدت الحكومة مستقيلةً هنا بعد التصويت بسحب الثقة من رئيسها ؛ لذا بنوا حكمهم بأنَّ الاستقالة غير المقترنة بسحب الثقة تستلزم تصويت مجلس النواب  أيضاً ؛ كي يتم سحب الثقة من رئيس الوزراء المستقيل ، فالاستقالة بإيجازٍ تأخذ حكم سحب الثقة .
وهذا الاستدلال بدوره غير صحيحٍ ، ولا يستقيم البتة مع أحكام الدستور العراقي ؛ وذلك للأسباب الآتية :
 
١- ثمة استقالةٌ وإقالةٌ في الفكر القانوني ، بيد أنَّ الدستور لا يوجد فيه مصطلح ( إقالة رئيس الوزراء ) ، بل ( سحب الثقة ) .
وهذا الخلط بين المصطلحات عند هؤلاء ليؤكد مرةً أخرى عدم الإحاطة بأحكام الدستور ، وهو ناجمٌ أيضاً ممّا ذكرناه آنفاً من قيامهم بقياس القواعد العامة في فروع  القانون الأخرى على أحكام الدستور ؛ وهو باطلٌ كما اتضح آنفاً .
 
٢- ثمة فرقٌ كبيرٌ بين الاستقالة وسحب الثقة ، من حيث الأسباب والنتائج ؛ فلا الأسباب بينهما متفقةٌ ، ولا النتائج والآثار المترتبة عليهما متحدةٌ .
وكنتُ أخالُ أنَّ هذا الفهم فهمٌ بدهيٌ لدى الجميع ، ولكن اتضح أنَّ الأمر خلاف ذلك ، وما زال الكثيرون لا يميزون بينهما !!
وبإيجازٍ شديدٍ ، تعني عملية سحب الثقة أنَّ البرلمان الذي سبق أنْ منح الثقة للحكومة لتنفيذ منهاجها الحكومي وتحقيق مصالح الشعب ، لم يعد راضياً بسياستها ، ولا مقتنعاً بجدارتها ببقاء الثقة الممنوحة لها ؛ فيسعى عبر الأطر الدستورية لمساءلتها وإسقاطها دستورياً ؛ وآنذاك يقوم باستجواب رئيسها تمهيداً لسحب الثقة منه.
وعندما يقرر سحب الثقة من الأخير يعني ذلك سحب الثقة من جميع أعضاء الحكومة – الوزراء - ، فينتهي آنئذٍ العمر الدستوري المضروب لها .
وبناءً على ما تقدم يعدُّ سحب الثقة جزءاً من عملية المساءلة والمحاسبة ، بل هو الإجراء الأكبر والأهم والأخطر في هذه العملية ؛ من هنا يتبين سطحية ذلك الرأي الذاهب إلى أنَّ سحب الثقة عملٌ روتينيٌ عاديٌ ؛ بل الحق أنها عملٌ سياسيٌ يحمل معانيَ متعددةً خطيرةً تفضي إلى إسقاط الحكومة وإحراجها أمام الرأي العام ؛ ما قد ينعكس سلباً على وضعها في الانتخابات !!
وإذْ يعني سحب الثقة المساءلة والمحاسبة ؛ فهو لا يتحقق إلاّ بعد الاستجواب ، إذْ يُشترط أنْ يكون مسبوقاً بإجراء الاستجواب ، فهو شرطٌ لازمٌ هنا ، ولا مناص منه ؛ بغية الاستماع إلى ردود ودفوع رئيس الحكومة ؛ لكون الاستجواب يحمل في طياته معنى الاتهام –السياسي- .
أما الاستقالة فهي عمليةٌ مختلفةٌ تماماً ؛ إذْ تُمثِّل سلوكاً سياسياً يسلكه رئيس الحكومة للتعبير عن موقفٍ ما ، كأنْ يروم إحراج البرلمان أمام الرأي العام ، أو لإبداء اعتراضه على قيام البرلمان بسنِّ قانونٍ يتعارض مع سياسة الحكومة ، أو أنْ تحدث موجة ضغط شعبي تطالب الحكومة بالاستقالة ؛ فتضطر إلى تقديمها .. وغير ذلك من الأمثلة والحالات.
وكل هذه الحالات قد تحققت في التجارب البرلمانية ، قديماً وحديثاً ؛ فلقد استقال رئيس الحكومة البريطانية ( ديفيد كاميرون ) ؛ لمجرد تصويت الشعب عبر الاستفتاء على الخروج من الاتحاد الأوربي خلافاً لرغبة الحكومة التي كانت ضد سياسة الخروج ، ثم استقالت بعده (تيريزا مي) ؛ لعدم تمكنها من إيجاد صيغةٍ مقنعةٍ للبرلمان للخروج من الاتحاد ، ومِنْ قبلهما استقالت (مارغريت تاتشر) ؛ بعد الرفض الشعبي لسياسة الحكومة في فرض الضرائب .. وهكذا العشرات بل المئات من الأمثلة والحالات التي حدثت بهذا الصدد في الأنظمة البرلمانية ، مما لا يخفى على المتابع والمتخصّص .
مِنْ هنا تعدُّ الاستقالة تعبيراً عن موقفٍ سياسيٍ لرئيس الحكومة ، وسلاحاً بيده ضد مناوئيه ؛ وبهذا التوصيف تغدو سلوكاً سياسياً بارزاً في العمل السياسي ، وحقاً دستورياً شخصياً لرئيس الوزراء ، لا يمكن حرمانه منه بأية صورةٍ من الصور ، ولا تعليقه على شرطٍ أو قبولٍ من جهةٍ ما .
إنَّ الاستقالة على نوعين : 
استقالةٌ حقيقيةٌ ، واستقالةٌ حُكْميةٌ .
فالاستقالة الحقيقية تتحقق عندما يقوم رئيس الحكومة بتقديمها طوعاً من تلقاء نفسه ؛ للتعبير عن موقفٍ سياسيٍ معينٍ ؛ ولذا يمكن أنْ أُعبِّر عنها بــ (الاستقالة الطوعية) .
أما الاستقالة الحُكْمية فتتحقق في جميع الحالات التي لا يَقدِم فيها رئيس الحكومة على الاستقالة من تلقاء نفسه ، بل تعدُّ الحكومة بحكم المستقيلة في حالاتٍ معينةٍ ذكرها الدستور، مثل حالة سحب الثقة من الحكومة أو حل البرلمان ، وغير ذلك من الحالات 
المماثلة . 
ولكي لا أطيل ، ولا أخرج عن الموضوع ؛ سأترك هذه التفصيلات لمقامٍ آخر .
وتأسيساً على ما تقدّم لا يمكن التسليم بقياس حكم الاستقالة الطوعية على حكم سحب الثقة ؛ للفرق الكبير بين الاثنين من حيث الأسباب والنتائج .
ولمزيدٍ من الأدلة المعزِّزة أوجِّه إلى أصحاب الرأي الأول المخالف الأسئلة الآتية :
 
أ- قد تبيّن لكم أنَّ الدستور قضى بوجوب إجراء الاستجواب لرئيس الحكومة قبل الشروع بعملية سحب الثقة منه .
وحيث إنكم قلتم إنَّ الاستقالة مَثَلها كمثل سحب الثقة يجب أن تقترن بموافقة وتصويت البرلمان ، فهذا يعني أنه يجب استجواب رئيس الحكومة عند تقديمه الاستقالة الطوعية ؟
فهل تقبلون بهذه النتيجة ؟؟
 وهل يقبل أدنى مَنْ له اطلاعٌ على الدستور والتجارب البرلمانية بهذه النتيجة الغريبة العجيبة ؟!!
 
ب- هذه التجارب الديمقراطية البرلمانية ماثلةٌ أمامكم ، فهل تستطيعون الإتيان بمثالٍ واحدٍ – واحدٍ فقط – في دولةٍ برلمانيةٍ واحدةٍ ، من الشرق إلى الغرب ، يقضي دستورها بوجوب استجواب رئيس الحكومة عند تقديمه الاستقالة الطوعية ؟
وهل تستطيعون الإتيان بتجربةٍ عمليةٍ واحدةٍ – واحدةٍ فقط - لإحدى تلك الدول قام برلمانها باستجواب رئيس الحكومة عند استقالته طوعياً ؟؟
فهذا رئيس الحكومة اللبنانية الحريري قد استقال بالأمس ، فهل استجوبه البرلمان ؟ وهل تم استجواب رئيسي الحكومة البريطانية المستقيلين تباعاً المذكورين آنفاً ..؟
ولا أدري مِنْ أين يأتي هؤلاء بمثل هذه الأحكام ؟!! ما يدلُّ على أنهم ليسوا بمطَّلعِين عن كثبٍ على الدستور ، ولا على التجارب الدستورية الدولية ؛ ويؤكد أنَّ الأمر لا يعدو عن قيامهم بالإدلاء بالرأي لمجرد الرأي لا أكثر ، وإنْ تسبّب في تضليل الرأي العام !! 
 
ج- إنَّ استجواب رئيس الحكومة – كما تقدم -  أمرٌ في غاية الخطورة ، ويحمل في طياته معانيَ كثيرةً خطيرةً ، فلو كانت الاستقالة الطوعية هي بمثابة سحب الثقة ، وسحب الثقة يستلزم إجراء الاستجواب ؛ فلماذا غفل النص الدستوري عن مثل هذه الأحكام الخطيرة ، مع أنه ذكر أموراً كثيرةً أقل أهميةً وخطورةً من الاستجواب وسحب الثقة ؟!!
وللحديث تتمة إنْ شاء الله لذكر الجهة الثانية المتعلقة بالأدلة الأخرى الداعمة لما عرضنا من رأيٍ .