الاحترافية

العراق 2019/12/11
...

عدنان أبوزيد
 
تفوّقت أوروبا، لاسيما الغربية منها، على غيرها من الشعوب، في التصنيع الرصين، والابتكار المبهر، واستثمار الأفكار.
وأسست اليابان لحرفانية عالية المستوى عبر تنشئة الفرد منذ الدرس الأول حتى تخرجه من الجامعة، على الاختراع والخلْق، وإتقان الصنعة بطريقة غريزية، في استثمار مثالي للموارد البشرية.
والشخص المحترف، هو ذلك الذي يجيد الصناعة، ويحيط بأسرارها، عبر المعرفة التي يمتلكها، والمؤهلات العملياتية الرفيعة التي يحوز عليها من المران، والتجاريب، والأخلاقيات في ادق تفاصيلها حتى تلك المتعلقة بطريقة التعامل مع الزبون، والالتزام بقواعد ارتداء ملابس معينة. 
يشكل المهنيون في الدول التي ارتقت سلم التطور، النسبة العالية من افراد الطبقة العاملة والمتعلّمة، وفي العادة لا تبرز 
عندهم الألقاب، وإنْ حملوا شهادات عالية، لانهم يدركون جيدا، ان العبرة في النتائج، والا فما معنى ان تحمل مسمىً 
براقا، وانت لا تتقن ممارسة الوظيفة، ولا تحسن أداء الواجب، وهو امر تكابد منه الكثير من الدول ومنها العراق، حيث
اللهاث وراء المسميات الاكاديمية الشكلية واتخاذها سلما للمنصب والراتب الأعلى، بينما الواقع لا يُفصح عن مهنية لدى البعض من حامليها، ولا إنجازا ماديا، أو مهارة يُعوّل عليها.
قواميس العمل الغربية، لا تصنّف حاملي الشهادات العالية، ضمن الفئة المهنية الا إذا رافق ألقابهم، البرهان العملي لا التنظيري، ذلك ان كتابة الأفكار على الورق لن تكون المقياس، وتأليف النظريات، لن يجدي نفعا ما لم يؤت ثمارا، ولهذا السبب يقود المهنيون، المجتمع، حتى في مجالات السياسة والاقتصاد، ويصعد الى مركز القرار، ذوو القدرات على التنظير والتطبيق.
وفي الجامعات العريقة، فان دور الأستاذ لا ينحصر في إعطاء الدروس للطلبة، بل ربما قضى جلّ وقته في مختبرات التجارب، وفي المصانع لتقديم الاستشارات، وفي مراكز البحوث للوصول الى نتائج عملية مبرهنة للافتراضات. لا تأتي المهنية عبر التدارس النظري فحسب، بل يُشاء لها ان تستمد روحها من الحنكة العملية، حتى في مرحلة الدراسة للأفراد، الذين لا يتخرجون من الجامعات والمعاهد، أشخاصا نظريين بمسميات، فحسب، بل افرادا عمليين مارسوا العمل والابتكار والانجاز في المختبرات ومراكز التطبيق، وبين المجتمع. تنتشر في العراق، المئات من الجامعات، التي تٌلقّن فيها الدروس بطريقة بصرية بحتة، وازدحمت الساحة بالألقاب “العلمية”، ويؤلّف الطلاب في كل عام، مئات الآلاف من الاطروحات التنظيرية، التي لا تتعدى كونها تلفيقا لمقالات ومعلومات، ونظريات، وكل ذلك من اجل الحصول على اللقب، وليس من اجل وضع النظرية على سكة التطبيق، بل ان رسالة الدكتوراه او الماجستير، سرعان ما تُركن على الرف حتى من قبل حاملها.
العكس يحدث تماما في الدول المتقدمة، ذلك ان المدارس المهنية تخرّج مئات الآلاف من الطلاب سنويا، من مبرمجين وصناعيين، وحرفيين، يبنون البلاد، ويوفرون الخدمات، ويبتكرون المشاريع، ومن دون القاب، ورسال شكلية، بينما يضيع الإنجاز المهني في المدارس والمعامل والمتاجر، والدوائر الحكومية والمؤسسات الاهلية في الدول المتخلفة. وانسحب ذلك على استئمان الفرد بالموظف الحكومي واستاذ الجامعة والمدرس والمنتوج الوطني، بسبب تغييب معايير الجودة في الخدمة. 
يتجاوز معنى الحرفانية الى ابعد من توظيف الفكر في الواقع، الى القدرة على ابتكار أساليب الإدارة، و تسهيل أمور المراجعين والارتقاء بآداب الوظيفة والالتزام بها، وهو امر مازالت بيئة العمل العراقية، تعاني منه.  يقول مدير الموارد البشرية في شركة مابل هوليستيكس: “الحرفانية علامة على الموثوقية والمسؤولية”. 
الأمة صاحبة الإنجازات العلمية والاقتصادية والرقي الاجتماعي، لا تركن الى التنظير، وتفريخ الشهادات، والتسميات الاكاديمية الشكلية، ولا تعتمد في مصيرها على المدّعين المعرفييّن، او الذين اوصلتهم الى مراكز القرار، المحسوبية والمنسوبية والعلاقات، بل على الاحترافيين العمليين، القادرين بشكل عملي ومبرهن على الابتكار والانجاز، حينها تدور عجلة التطور، الجامدة بسبب مقودها المُدار من قبل طارئين على القيادة، الذين يتقمصون شخصيات “مهنية” و”اكاديمية” لا تمت لهم بصلة.