مراحل الحداثة وعناصرها

ثقافة 2018/11/24
...

 
د. كريم شغيدل
ذهب الناقد (فاضل ثامر) إلى أنَّ الحداثة الشعرية العربية مرّت بثلاث مراحل هي: المرحلة العقلانية، والمرحلة الرؤيوية، ثمَّ مرحلة المصالحة بين النزعتين، وهو الذي مايز بين قصيدتي الرواد وجيل الستينيات الذي أعقبهم فأطلق على الأولى "القصيدة التشكيلية- الدنيوية" وعلى الثانية "القصيدة الرؤيوية" إذ نجح الخمسينيون في الاعتماد على الصورة الإيحائية في خلق مناخ شعري من دون السقوط في الخطابية والمباشرة أو إثارة الانفعال المترسب في الأعماق، بينما عمد التيار الذي أعقبهم إلى الاستفزاز الشكلي والمضموني وإثارة مشاعر الغضب والسخط واعتماد ما يثير التساؤل والاستغراب، وبصرف النظر عمّا إذا كان (فاضل ثامر) منحازاً إلى جيله في الستينيات أم لا، فإنَّ التمايز بين نمطين لقصائد الحداثة لا يمتّ بصلة – على ما يبدو- للمراحل الثلاث التي أبرزها للحداثة العربية، إذ ليس بمقدورنا أن ننسب أيّاً من نمطي القصائد لمرحلة من مراحل الحداثة بصورة مطلقة وبحسب نظرة (فوزي كريم) على الرغم من تشديده على إفراغ التجربة الشعرية من محتوى الحداثة، فإنَّ الحركة الشعرية الحديثة كانت "فرصة رائعة لردم (الهوة) التي أثقلت الشعر العربي، بين تجربة الشاعر المستلبة في داخله وبين النص الشعري الذي استحوذ عليه الشكل أو الصنعة، وكان من أهم مظاهر التجديد الانتقال بالشعر من طور الصنعة اللفظية والإيقاعية إلى طور الأداء الشعري والرؤية.
 
 المنظور والرؤية
 فقد صنعت التجربة أنموذجاً مؤثراً سرعان ما تمّت محاكاته ومجاراته وتطويره فلم " تكن ثورة السياب وجيله ثورة في العروض وحده، كما فهمها معاصروه من النقاد، بل كانت قبل ذلك ثورة في المنظور والرؤية، لذلك فقد تقاسمها دافعان رؤيويان هما: الأيديولوجيا والأسطورة" كما يرى (سعيد الغانمي)  ونرى بأنَّ العاملين اللذين تقاسما التجربة لم يكونا منفصلين إذ غلب طابع التوظيف الأيديولوجي للأسطورة، ويرى الدكتور (إحسان عباس) أنَّ الذي ميّز هذه التجربة هو "أنَّ إيمانها بقيمة هذا التحول كان شمولياً لا محدوداً، وأنَّ أفرادها في حماستهم لهذا الكشف الجديد رأوا (...) أنَّ هذا الشكل يصلح دون ما عداه وعاء لجمع التجربة الإنسانية إذا أريد التعبير عنها بالشعر"، وفي هذا الكلام شيء من التعميم، لأنَّ (نازك الملائكة) نفسها حذّرت من الحرية التي يمكن أن تتيحها التجربة، وانتقدت مَنْ اتخذوا من "الشعر الحر" مذهباً إذ تراجعت التجربة، فكراً وشعراً، كما لم يتوانَ السياب عن كتابة قصائد عمودية موغلة في الصنعة والتقليدية، ويقسّم عباس بحثه في "اتجاهات الشعر العربي المعاصر" إلى خمسة عوامل، يعدّها قوى كبرى لتحديد وجهات الشعر هي:
 
• الموقف من الزمن (ومن ثم من الموت).
• الموقف من المدينة.
• الموقف من التراث.
• الموقف من الحب.
• الموقف من المجتمع.
ونرى أنَّ هذه العوامل قد أسهمت بحق في صياغة وتوجيه مسارات الشعر الحديث لأنها أظهرت أبعاده الأيديولوجية التي غيّرت وظيفته الغرضية، ولسنا هنا بصدد التجليات الرؤيوية والجمالية أو التوظيفات والبنى التعبيرية، إنما حاولنا فقط إظهار البعد الثقافي للتجربة.
 
اشكاليات الحداثة
لعلّ الاستعمالات الخاطئة أو غير الدقيقة للمصطلحات أولى إشكاليات الحداثة، بدءاً من مصطلح "الحداثة" نفسه، ففي التراث الأدبي العربي استعمل النقاد القدامى مصطلحي"القدامى والمحدثين" وهذا الاستعمال كان يشير إلى المعنى الزمني، على الرغم من أنه يلمّح ضمناً إلى التحوّل الفني الذي طرأ على الشعر آنذاك، ويبدو أنَّ الثقافة العربية المعاصرة قد ورثت ذلك المعنى، ما أربك عملية التعاطي مع"الحداثة مصطلحاً ومفهوماً، إذ استعملت مصطلحات (النهضة، التنوير، الحديث، الجديد، المعاصر) وغيرها استعمالات ملتبسة.
ففي الأغلب كانت تشير لمعنى الزمن، وعندما بدأت النخب العربية بتداول مصطلح الحداثة استعمل من بعضهم بكونه نزعة للتجديد، غير مرتبطة بزمن ولا بمنطلقات فلسفية أو معرفية معينة، لذلك أصبح الحديث وارداً عن حداثة الجاحظ أو أبي حيان أو الحلاج وأبي تمام وأبي نواس وبشار بن برد، ثمَّ انسحب الأمر إلى المصطلحات الأدبية لاسيما في استعمال مصطلحي (الشعر الحر وقصيدة النثر)، فكلاهما كان عرضة للاستعمال غير الدقيق الذي لا يتطابق مع الأصل، وتطور الأمر ليشمل المصطلحات النقدية إلى درجة الخلط بين المعنيين الاصطلاحي واللغوي والتوظيف العشوائي غير المدرك للمفاهيم.