مستشفى {التحرير».. ردهة طوارئ متقدمة لعلاج المصابين
العراق
2019/12/14
+A
-A
بغداد / هدى العزاوي تصوير: علي الغرباوي
لمْ يكن مستشفى التحرير إلا عبارة عن بناية صغيرة استغلها بعض الشباب المتطوعين لإنقاذ جرحى التظاهرات وقاموا بتحويلها من مكب للنفايات الى ردهة طوارئ متقدمة تم افتتاحها بموافقة رسمية من دائرة صحة الرصافة. يقول مسؤول المستشفى عادل الزيدي الذي كان مشغولا بتوجيه فريقه: إن "أغلب المفارز الطبية الموجودة في ساحة التحرير كانت متنقلة وموزعة بشكل منتظم بين الحشود المنتشرة"، قطع حديثه ليجيب على أحد الشباب ومن ثم أكمل قائلاً: "لم يتم افتتاح هذا المستشفى الا بعد فترة وجيزة من اشتداد حدة التظاهرات، ولم يكن علينا الا البحث عن مكان آمن لمعالجة الجرحى وحمايتهم من الخطر المحدق بهم في ساحة التحرير؛ بسبب القنابل المسيلة للدموع، وفعلا بعد بحث طويل وجدنا هذه البناية المقفلة منذ عام 2003 ولم تكن الا عبارة عن مكب للنفايات، وبعد الحصول على موافقة صاحب المبنى قمنا بإعادة تأهيلها وجعلها مستشفى لينافس وبشهادة الأطباء ردهات الكثير من المستشفيات من ناحية النظافة والأجهزة والعمل الطوعي والرسمي من قبل بعض الكوادر الطبية".
ويضيف الزيدي بصوت مليء بالفخر، أن "هذه المفرزة كانت خارجية واستشعاراً لأهمية المكان ووقع اسمه، فسمينا المستشفى بـ (التحرير) لما له من حرية في معالجة واستقطاب الجرحى ومعالجتهم، لذا تم تعزيز المستشفى من قبل دائرة صحة الرصافة بالكوادر الطبية والكوادر الطوعية الخارجية ليعملوا بيد واحدة لإنجاح هذا العمل والمبادرة الانسانية التي كانت بجهود وبتمويل ذاتي، حتى أصبحت مدعومة بشكل كبير لديمومة العطاء الانساني الذي أنشئ من اجله هذا المستشفى".
قطع حديثنا صوت عجلة "التوك توك" وهي تقف بسرعة فائقة أمام مستشفى التحرير، سارع الكثير من الاطباء والممرضين لاستقبال المتظاهر الذي تعرض الى حالة اختناق شديد؛ نتيجة استنشاق الغاز المسيل للدموع، ويقول يحيى صادق صاحب عربة الاسعاف المصغرة بصوت عالٍ إنها "الحالة الرابعة التي تم نقلها هنا".
ويجلس أمام المستشفى المتظاهر حسين علي كاظم الذي تعرض الى حروق شديدة بساقيه نتيجة احتراق إحدى البنايات، مشيراً الى أن إصابته "لن تقف عائقاً أمام مساندته الطوعية للشباب المتظاهر".
وبعد أن خف لهيب الموقف؛ عاد مسؤول المستشفى الزيدي ليؤكد أن مستشفى التحرير أو ردهة الطوارئ المتقدمة "هو امتداد للبناية الأخرى التي تمت إعادة تأهيلها لتكون مركزاً لمستشفى دائرة الرصافة وكوادره الطبية".
استلم دفة الحديث أحد مسؤولي مستشفى الرصافة الذي "رفض الاشارة الى اسمه" لأسباب لم يعلن عنها، وقال: إنه "بحسب توجيهات مدير عام دائرة الرصافة الدكتور عبد الغني سعدون الساعدي تم توزيع خمس مفارز طبية منتشرة في ساحة التحرير لتقديم جميع الخدمات الطبية والصحية للمتظاهرين، إضافة الى إسعاف الجرحى ونقل الحالات الحرجة بحسب الحالة والمستشفى الذي يعنى به، ويبلغ عدد سيارات الاسعاف المنتشرة في ساحة التحرير 20 سيارة إسعاف مهيأة على مدار الساعة لاستقبال النداء ونقل
الحالات".
وأضاف، "هناك تعاون مشترك بين دائرة مستشفى الرصافة وكلية الطب والصيدلة وكلية التمريض وإعداد الممرضين للعمل بجهود عالية لتقديم المساعدة للجرحى ورعاية حالات الاختناق والرضوض التي يمكن معالجتها
بسرعة".
المطعم التركي
على مقربة من المطعم التركي يقف المتظاهر (هافال البرزنجي) الذي كان حاضرا منذ بداية التظاهرات مطالباً بالحقوق المشروعة، ويقول: إن "هذه الانتفاضة التشرينية -كما يصفها- استطاعت جمع غضب الشارع العراقي وصبه في تظاهرات سلمية للمطالبة بحقوقهم"، مؤكداً أن "هذه الانتفاضة أذابت الطائفية وصهرتها بمحبة العراقيين وبإيمانهم التام بأن العراق سيعود من جديد بسواعد الأبطال من أبنائه وإعادته الى مصاف الدول المتقدمة، والدليل على ذلك الحملات الطوعية التي تقوم بها المفارز الطبية التي كانت حاضرة منذ اندلاع
التظاهرات".
من جانبه، يشير علي اللامي بصوت مليء بالفخر، الى أن "هذه التظاهرات تمكنت من توحيد كلمة العراقيين وانصهار الطوائف والأديان والقوميات لتصب في بوتقة الوطن الواحد الرافض لكل التدخلات الخارجية وإيصال هذه الرسالة لجميع العالم، ما يعني أن العراق الجديد لن يحكمه إلا أبناؤه فقط، وإنه لا مكان لغير
الوطنيين".
ملائكة {التوك توك»
منذ ساعات الصباح الباكر وحتى ساعات متأخرة من الليل يقف الشاب أحمد عبد الرزاق بالقرب من المطعم التركي أو "جبل أحد" لاستحصال شرف نقل المتظاهرين وتلبية متطلباتهم، ويقول (عبد الرزاق توك توك) كما يكنى في ساحة التحرير، إن عمله "جاء لمساندة أبناء الشعب والمطالبة بحقوقهم المغبونة منذ أكثر من ستة عشر
عاماً".
ويشير الى أن الطوابير الطويلة من العربات التي تتحرك بسرعة وهي تحاول إيصال الجرحى وحالات الاختناق التي سببتها القنابل المسيلة للدموع التي تطلق عليهم، هي جزء صغير مما نستطيع تقديمه لإنجاح هذه التظاهرات وإعادة العراق الى ما كان عليه يزخر بشباب المستقبل الذين سطروا أروع المواقف البطولية التي سجلها التاريخ بشريحة ذاكرته الزاخرة
بالإنجازات".
كانت عربات (التوك توك) في وقت سابق يصفها البعض بأحد (أوجه الاستيراد الخاطئ)، لكنها أصبحت (شريان ساحة التحرير) وأحد أسباب ديمومتها، ويقول أحمد عبد الرزاق الذي يقف على مقربة من عربته المحترقة، إنه "منذ بداية الانتفاضة وهو قد وهب جل وقته لنقل المتظاهرين، الى أن حصل ما حصل وتعرضت عربته الى الحرق"، وردد بسؤال خانق أذاب جليد الألم الذي يعتليه بأنه "فقد الوسيلة الوحيدة التي تسهم بإدامة الحراك في ساحة التحرير!".
قطع حديثنا صوت أحد المتظاهرين وهو يطالب بجمع التبرعات لشراء عربة جديدة ليكمل الرجل مسيرته المشرفة في ساحة التحرير وتهافت الجميع لاسترداد ولو جزء قليل مما قدمه في سبيل نقل الجرحى والشهداء.
إسعاف مصغر
ويشيد أحد المتظاهرين بالعمل الذي يقوم به أصحاب (التوك توك) وما يتحملونه وسط الزخم الحاصل في ساحة التحرير، معرباً عن إعجابه بـ "عزم هؤلاء الشباب الذين تمكنوا من التعبير عن أنفسهم وبشكل مذهل عبر وضع عبارات تليق بانجازاتهم حتى بات أعظم الشعراء والكتاب يتغنون بهم
وبإبداعاتهم".
تشاهدونهم ببساطة على شكل سيارة إسعاف مصغرة ووسيلة نقل لمن يريد التنقل بين الحشود المنتشرة ولم يبتعدوا عن المبادرات الانسانية التي سجلت بالخط العريض على جدران ساحة التحرير، تبرع أصحاب (التوك توك) بتصليح العربات التي شارفت على انتهاء صلاحيتها بسبب الاستخدام المتواصل ولإعادة ديمومتها، كان سجاد وصديقه عباس حاضرين بمعداتهما لإصلاح ما يمكن إصلاحه، ويقول سجاد إن "هذه العربات شريان التظاهرات وديمومتها، لذا نسعى لأن تبقى على قيد الحياة لإدامة الحراك، والتي تمثلت بروح التعاون وعدم نسيان واجباتهم على هامش التظاهرات، فتشاهدهم اليد اليمنى للمسعفين والناقل الأبرز للمختنقين ولم يقتصر عملهم فقط على ذلك، فقد تبرعت مجموعة منهم لتنظيف الأمكنة قدر الإمكان والمساهمة بنقل الطعام من السرادق الى جميع الموجودين في التظاهرات والعناية بهم والتأكد من توفير المستلزمات
الضرورية لهم".
مهمة هذه العربات نقل الشهداء والجرحى والمصابين بحالات اختناق إلى المستشفيات القريبة كمستشفى الشيخ زايد أو الطوارئ أو الجملة العصبية، إضافة إلى إسعاف كبار السن ولم يكن عملهم لكسب الرزق لأنهم يعملون بالمجان ولا يستوفون أي أجر، يؤكد أحد المتظاهرين الذي كان يجتاز الحشود بسرعة فائقة لنقل أحد المصابين الى مستشفى التحرير، أن "مطالبهم مشروعة ولم يستوجب الأمر بأن تراق الدماء"، قطع حديثه وبعد أن أخذ نفساً عميقاً، قال بصوت مليء بالحزن: "نأسف على من لا نستطيع نقلهم الى المشفى لإنقاذ حياته".