د. محمَّد حسين الرفاعي
[I]
تُؤخَذُ الديموقراطيَّاتُ المختلفة من جذرها حينما يقوم التَّساؤل السُّوسيولوجيُّ عن المجتمع الحديث، وماهيَّته. مضمونُ الديموقراطيَّةِ يتجسَّدُ عَبرَ وحدة مكوِّنات الثقافة، والاِقتصاد، والسياسة، في مجتمع بعينه. فلا ثَمَّةَ قوامَ سيستام فهم لأيَّةِ ديموقراطية إلّا بضرب من ضروب تحديد المُكَوِّنات التاريخيَّة- المجتمعيَّة، بعامَّةٍ، والمُكَوِّنات الثقافية، والاِقتصادية، والسياسية، في مجتمع بعينه، بخاصَّةٍ. وعلى ذلك، لأنَّ القانونَ يؤخذُ بوصفه وحدةَ الإجماع المجتمعيِّ حول القضايا المجتمعيَّة العامَّة، فإنَّ قانون الديموقراطية يتمثَّلُ، أوَّلاً وفوقَ كُلِّ شيءٍ، بـ [المقبول- مجتمعيَّاً].
[II]
ولكن، على أيَّة جهة يمكن أن يُتفحَّصَ قانون الديموقراطية، اِنطلاقاً من المجتمعيَّة التي من شأنه؟ وكيف، وبأية أساليب، وأدوات، وإجراءات، هو يقوم؟
في سبيل الإبانَةِ عن ذلك، لا بُدَّ من أنْ نتوقف عند مسائل مجتمعيَّة- تاريخية ثلاث:
I- المسألة الأولى تتمثَّل في النظريَّة العامَّة، وحقل الفهم الخاصّ بها (ديني، أو مَدِيْنِي- حديث، أو التوفيق بينهما)، التي على أساسها يكون الحكم- ممارسة السلطة أمراً مشروعاً. ولا يكون ذلك إلّا عَبرَ اِستطلاع، ومن بَعدُ تفحُّصٍ، ومِنْ ثُمَّ اِقتراع يقوم به المجتمع الكُلِّيّ.
II- المسألة الثَّانية تتضمَّنُ الفلسفة العامَّة الضابطة لسيستام السلطة، ولما يريده المجتمع من السيستام؛ وطبيعة المستقبل الذي يريده المجتمع الكُلِّيّ.
III- المسألة الثَّالثة تُحدَّدُ اِنطلاقاً من التجارب التاريخيَّة- المجتمعيَّة، عالميَّاً. ودراسة مواطن الفشل، وطبيعة العقبات التي حالت دون أن يُصبح الاِنتقال إلى الديموقراطية أمراً مجتمعيَّاً ممكناً.
[III]
وحتى لا نقع في فخ أعمِّ العموميَّات، نتساءل مباشرةً عن مَن هو جدير بالتشريع، والتقنين. فإذا ذهبنا إلى التَّساؤل: أين، ومتى يُصبح أمرٌ ما، مُحدَّدُ من قِبَلِ أفراد بعينهم، مقبولاً عند المجتمع الكُلِّيِّ، ومَن يُحدِّدُ ذلك (أي من هم هؤلاء الأفراد المحدِّدين)؟ نكون مباشرةً أمام الإمكانات الموضوعيَّة الآتية:
I- الإمكان الموضوعي الأول: حينما يكون السيستام قائماً على نظرية عامَّة تستمد مبرِّرَ وجودها، ومقبوليَّتَها من الدِّين، والمؤسسة الدينية، يكون مَن يحدِّدُ ذلك هو الدِّين، والنص الديني، ومَن يُمثِّلَهما.
II- الإمكان الموضوعي الثَّاني: حينما يكون السيستام قائماً على نظرية عامَّة تستمد مبرِّرَ وجودها، ومقبوليَّتَها من المدينة الحديثة، أي من المعرفة العِلميَّة الحديثة، نكون أمام مجموعة من الأفراد الذين تُقاس قدرتُهم على ذلك من قِبَلِ الآكاديميا، والمعرفة العِلميَّة الحديثة.
III- الإمكان الموضوعي الثَّالث: حينما يكون السيستام قائماً على نظرية عامَّة تستمد مبرِّرَ وجودها، ومقبوليَّتَها من الدِّين، والمؤسسة الدينية، من جهة، ومن المدينة الحديثة، أي من المعرفة العِلميَّة الحديثة، من جهةٍ أخرى، نكون أمام مجموعة من الأفراد الذين تُقاس قدرتهم على ذلك من قِبَلِ الآكاديميا، والمعرفة العِلميَّة الحديثة، أوَّلاً، ولكن، من جهة أن الدِّين، والنص الديني يأتي من ميتافيزيقا بعينها، فلا بُدَّ لهؤلاء أن يكونوا حاصلين على تأييد من قِبَلِ رجال الميتافيزيقا هذي، ثانياً.
[IV]
وفي هذي الحال نكون أمام تناقضٍ أصليٍّ. فمن جهة ضرورة الاِنتقال إلى الديموقراطية من حيثُ أنَّها حصيلة الحداثة- والتحديث، أي المعرفة العِلميَّة- والفلسفية الحديثة القائمة على الواقع المجتمعيّ الحديث (الرأسمالي)، ومن جهةٍ أخرى ضرورة الحفاظ على الدِّين، والمؤسسة الدينية، والنص الديني المقدّس. فكيف يُحل التناقض؟ وما الذي يستند إليه أصحاب الرأي في النص الديني، وفي الوقت نفسه، في الدولة الحديثة؟
لا يوجد سوى خيار معرفي آيديولوجيٍّ واحد يُلجأ إليه؛ يتمثَّلُ بإعادة قراءة النص الديني، والتراث بعامَّةٍ بما يتناسب مع الحداثة- والتحديث. بَيْدَ أنَّ ذلك يفتح التناقض على تناقض جديد. يتمثَّل طرفاه في: من جهة، ضرورة أن يكون المشرِّع متديِّناً (مقلِّداً أو مجتهداً)، ومن جهةٍ أخرى، لا نهائية قراءة وإعادة قراءة النص حسب الظروف المجتمعيَّة المختلفة.
فكيف يُحل التناقض؟ إنهم يلجؤون إلى حله بواسطة ترقيع صوري يتمثَّل في الأخذ بشيء من النص، والأخذ بشيء من المدينيَّة الحديثة. وهذا الحل يضعنا أمام مفاهيم من دون مضامين، ومن دون إمكانات ممارسة. أي من دون روح. عند ذلك، يُصبح الدِّينُ قانونَ الديموقراطية، ويُصبح رجل الدِّينِ عقلَها. لذلك إنَّ اِنتقالَنا إلى عصر الديموقراطيَّات إنَّما كان اِنتقالاً لعصر ديموقراطية الدِّين، وعقلِ رجل الدِّين. فهل يمكن للديموقراطية أن تقوم، وفي الوقت نفسه، يحضر الدِّينُ فيها؟ نعم بالتأكيد.