القول الفصل في حكم الدستور باستقالة رئيس الوزراء

العراق 2019/12/20
...

د. حسن الياسري
 
على مدار الأجزاءِ الثلاثةِ المنصرمة مِن هذه الدراسة كنّا قد تناولنا بالعرض والتحليل أدلة وحجج الرأي الذاهب إلى – وجوب - تقديم استقالة رئيس الوزراء إلى البرلمان لغرض التصويت عليها، أو إلى رئيس الجمهورية.
 وقد رددنا تلك الأدلة من جهتين؛ أمَّا إحداهما فتمثَّلت بنقض تلك الأدلة التي تذرَّعوا بها، وأمَّا الأخرى فتمثَّلت بسرد المزيد مِن الأدلة الأخرى المعزِّزة للرأي الذي طرحناه، الذاهب إلى أنَّ رئيس الوزراء ليس ملزماً دستورياً بتقديم هذه الاستقالة إلى أية جهةٍ كانت؛ مستندين في ذلك إلى الفقه الدستوري والتجربة الديمقراطية في الأنظمة البرلمانية.
وبصدد هذه الجهة - الثانية - كنَّا قد عرضنا ثلاثة أدلةٍ مضافةٍ تُعزِّزُ ما ذهبنا إليه.
واليوم نتواصل في عرض المتبقّي مِن تلك الأدلة، مجدِّدين التنويه بأنَّ الأدلة التي عرضناها تؤخذُ وحدةً واحدةً، لا منفصلةً، فلا يؤخذ أحدها من دون مراعاةٍ للأدلة الأخرى المترابطة؛ لأنَّ بعضها يكمل البعض الآخر :
 
4 - الدليل الرابع مِن الجهة الثانية:
هنا أعود لإعمال القواعد العامة في التفسير، وبالتأكيد أعني بذلك القواعد العامة في الفقه الدستوري والأنظمة البرلمانية، فضلاً عن القواعد العامة في فنِّ الصياغة القانونية والدستورية، لا القواعد العامة في قانون الخدمة المدنية أو القانون الإداري التي ركن إليها – غلطاً وتوهماً – أصحاب الرأي المخالف، وفي هذا المقام أُوجِّه إليهم الأسئلة الآتية :
 
أ- هل تعدُّ الاستقالةُ حقاً شخصيَّاً وممارسةً سياسيةً لرئيس الوزراء في النظم البرلمانية، أو هي ليست كذلك، ما يعني وجوب تعليقها على موافقة الجهات الأخرى ؟!.
وبطبيعة الحال قد أتت الإجابةُ السادةَ القرّاء في ما مضى، وهذه الاجابة تتمثَّل بالقول إنَّ الاستقالة حقٌّ شخصيٌّ غير معلَّقٍ على شرطٍ، ومنْ يعتقد بخلاف ذلك من أنصار الرأي الأول، فليخبرنا عن موقف هذه النظم بهذا
الصدد .
 
ب- أتوجَّه إلى المتخصِّصين بفنِّ الصياغة القانونية والدستورية، لا غيرهم، لأُوجِّه لهم السؤال الآتي :
إذا كان المشرِّع لا ينظر إلى الاستقالة بوصفها حقاً شخصيَّاً لرئيس الوزراء، ورام تعليقها على موافقة الجهات الأخرى - البرلمان أو رئيس الجمهورية -  وطلبنا منكم أيُّها السادةُ المشورةَ وصياغة هذا الحكم في نصٍ دستوريٍ، فبمَ تُفتون، وماذا تكتبون في الصياغة؟
أتُفتون بوجوب ذكر هذا الحكم صراحةً، وهو وجوب تقديم رئيس الوزراء استقالته إلى الجهة المعنية - البرلمان أو رئيس الجمهورية - خلال مدةٍ يتم تحديدها، ثم ذكر الآثار المترتبة على قبول الاستقالة أو رفضها ؟.
أم أنَّكم تُفتون بعدم الحاجة إلى ذكر هذه الأحكام كلها، وإمكانية السكوت عنها، وعدم إيراد نصٍ صريحٍ بصددها؛ تأسيساً على أنَّ السكوت هنا ليس بمثلبةٍ ولا عوارٍ ؟!.
وأعلنها لكم صريحةً غير مستورةٍ، نيابةً عن أولئك المتخصِّصين بفنِّ الصياغة:
لا بدّ مِنْ، ويجب، ويتحتم، ويتعيّن، في مفروض السؤال، ذكر هذه الأحكام بنصٍ صريحٍ، وعدم القبول بالسكوت في هذا المورد؛ لأنه يُمثِّل عيباً كبيراً، وعواراً بالغاً.
ومنْ شكَّ في ذلك فليراجع المتخصِّصين في هذا الباب !.
وفي الاتجاه الآخر، أسأل هؤلاء المتخصِّصين مرةً أخرى :
لو شاءَ المشرِّعُ جعلَ استقالةِ رئيس الوزراء حقاً شخصياً له، غير مُعلَّقٍ على موافقة جهةٍ أخرى، فهل يجب في مثل هذه الحالة من الناحية الصياغية إيراد هذه الحقيقة بنصٍ صريحٍ، أو أنَّ بالإمكان السكوت عنها؛ كونها ستكون مفهومةً ودائرةً في فلك الإباحة بجميع وسائل التفسير المتاحة ؟.
وأعلنها مرةً أخرى؛ لا يحتاج المشرِّع في مثل هذه الحالة إلى إيراد النص الصريح؛ لكون الأمر متعلقاً بعملٍ مباحٍ غير محظورٍ من جهةٍ، وغير معلقٍ على شرطٍ من جهةٍ أخرى، فعلامَ النص حينئذٍ، وما هي موجباته؟!
بل أكثر من ذلك؛ لا أبالغ إذا قلتُ إنَّ إيراد النص الصريح على وفق ما سلف سيكون عيباً صياغياً شكلياً، لنْ يجعل الدستور بمنأى عن النقد والتجريح، كأنْ يأتي النص مثلاً بالآتي:
(يحق لرئيس الوزراء تقديم استقالته، من دون أنْ يكون ملزماً بتقديمها إلى مجلس النواب أو مجلس الاتحاد أو رئيس الجمهورية ) !.
 
5 - إتماماً لما تقدَّم مِنْ أدلةٍ متعلقةٍ بالجهة الثانية، سأضيف دليلاً آخر مُعزِّزاً :
 
حينما عمد الدستور لتنظيم أحكام استقالة رئيس الجمهورية لم يشأ أنْ يتعامل معه كما تعامل مع مركز رئيس الوزراء، فجاء بنصٍ صريحٍ في المادة (75/ 1) ورد فيه الآتي :
( لرئيس الجمهورية تقديم استقالته إلى رئيس مجلس النواب، وتعدّ نافذةً بعد مضي سبعة أيام من تأريخ إيداعها لدى مجلس النواب).
وها أنتم أولاء تلاحظون أنَّ الدستور نظَّم استقالة رئيس الجمهورية بنصٍ صريحٍ، في حين لم يعمل مثل ذلك مع رئيس الوزراء، مع أنَّ النص المنظِّم جاء بلغة الجواز لا الوجوب، فإذا كان الجواز دافعاً لجعل الدستور يأتي بنصٍ صريحٍ، فكيف إذا كان الأمر وجوبياً؛ إذْ ينبغي آنئذٍ تنظيمه والنص عليه بالقياس الأولوي من بابٍ أولى!.
وهذا أيضاً يردُّ الرأيَ المخالف القائل بوجوب تقديم استقالة رئيس الوزراء إلى البرلمان أو رئيس الجمهورية، فالسكوت هنا يعني أنَّ الدستور جعل الاستقالة حقاً شخصيا صرفاً، غير معلقٍ على شرطٍ، ولا مشفوعاً بموافقة جهةٍ أخرى .
 
إشكال :
لعل أحداً يستشكل على كلامنا المذكور آنفاً بأننا قلنا إنَّ الاستقالة حقٌ شخصيٌ غير معلقٍ على شرطٍ، وإنَّ تنظيم هذا الحق بنصٍ صريحٍ يعدُّ عيباً صياغياً شكلياً من الناحية الصياغية، فلماذا وقع الدستور في هذا العيب عبر وضع نصٍ مشابهٍ له في حالة رئيس الجمهورية، مع أنَّ تقديم استقالة رئيس الجمهورية إلى مجلس النواب هي جوازيةٌ لا وجوبيةً ؟.
 
رد الإشكال :
إنَّ رد هذا الإشكال ودفعه يكمن في أنَّ الكثيرين – كما قلتُ مراراً– ليسوا بمُطَّلعين عن كثبٍ على أحكام الدستور العراقي، فضلاً عن الدساتير المقارنة، وبهذا الصدد قد يغيب عن ذهن بعض أولئك أنَّ السلطة التشريعية التي أرساها هذا الدستور تتألف من جناحين؛ هما مجلس النواب ومجلس الاتحاد، ولذا جاء النص ليرشد رئيس الجمهورية حينما يروم تقديم استقالته، إذ عليه تقديمها إلى مجلس النواب ، لا مجلس الاتحاد، وهذا بدوره يُعزِّز مرةً أخرى استدلالنا على أنَّ رئيس الوزراء ليس ملزماً بتقديم استقالته إلى أية جهةٍ كانت؛ إذْ لو كان الأمر خلاف ذلك لجاء النص لُيحدِّد ذلك صراحةً، وليُحدِّد الجهة التي تُقدَّم إليها الاستقالة .
 
النتائج :
تأسيساً على ما تقدَّم مِنْ عرضٍ وتحليلٍ تضمَّنته هذه الدراسة يمكن الخلوص إلى النتائج الآتية :
 
1 - إنَّ الغاية الرئيسة التي دفعتنا للكتابة بإسهابٍ في حكم الدستور باستقالة رئيس الوزراء على الرغم مِنْ قيام البرلمان بالتصويت على هذه الاستقالة، لتتجلَّى الحقيقة بوضوح، تلك الحقيقةُ التي ضاعت بسبب خوض مَنْ لا يعلمون بأمورٍ ليسوا عليها بمُطَّلِعين، ولا بحيثياتها محيطين، ولئلّا يتحوَّل هذا التصويت -الخاطئ الواهم - إلى سُنَّةٍ أو عرفٍ دستوريٍ .
 
2 - إنَّ جُلَّ ما ركن إليه الرأي الذاهب إلى القول –بوجوب - تقديم استقالة رئيس الوزراء إلى البرلمان أو رئيس الجمهورية لَيكمنُ في حجتين اثنتين؛ أمَّا أولاهما فهي الاحتجاج بغياب النص الدستوري وسكوته، وأمَّا الأخرى فهي القياس على فروع القانون الأخرى، وبالتحديد قانون الخدمة المدنية والقانون الإداري، ولقد تبيَّن بالعرض الموسع سقوط هاتين الحجتين، وعدم قدرتهما على الصمود أمام الفقه الدستوري والتجارب في الأنظمة البرلمانية .
 
3 - استناداً إلى الأدلة المتعدِّدة التي سقناها، تعدُّ استقالة رئيس الوزراء بمقتضى أحكام الدستور العراقي والقواعد العامة في الأنظمة البرلمانية حقَّاً شخصيَّاً صرفاً لرئيس الوزراء، وسلوكاً سياسياً يمكن التذرُّع به؛ بغية تحقيق بعض الأهداف السياسية والشعبية؛ وليس بإمكان أحدٍ سلبه هذا الحق، أو غمطه هذا السلوك .
 
4 - تعدُّ هذه الاستقالة نافذةً بمجرَّد الإعلان عنها، من دون أنْ تُعلَّق على شرطٍ، أو أنْ تتوقف على إجراءٍ معينٍ، أو أنْ تُشفع بموافقة جهةٍ ما، تشريعيةً كانت أو تنفيذيةً .
 
5 - إنَّ كون الاستقالة حقَّاً شخصيَّاً لرئيس الوزراء لا يعني الحيلولة دون قيامه بإشعار الجهات الأخرى بها، سواءٌ أكان مجلس النواب أم رئيس الجمهورية، فهو بالخيار، إنْ شاء فعل، وإنْ شاء لم يفعل؛ ذلك أنَّ رأينا في هذا المقام مبنيٌّ على أنَّ الاستقالة حقٌّ، وهي في دائرة الإباحة، ولا وجوب أو إلزام بضرورة موافقة أية جهةٍ عليها، بيد أنَّ هذا الحق لا يمنع مِنْ قيام رئيس الوزراء بإشعار الجهات الأخرى بها، ولاسيما مجلس النواب ورئيس الجمهورية، بل هو الأوفق بتقديري المتواضع .
 
6 - إنَّ الاستقالة الحقيقيَّة أو الحُكميَّة للحكومة تُحوِّلها إلى حكومة تصريف أعمالٍ، سواءٌ في الحالات المذكورة صراحةً في الدستور، أو غيرها مما جرت عليه الممارسة في الأنظمة البرلمانية .
 
7 - أدعو مجدداً جميع الإخوة الأعزاء من غير المختصِّين في الدستور العراقي – على وفق ما ذكرناه آنفاً – إلى عدم الخوض في مسائل الدستور وأحكامه؛ لأنَّ خوضهم هذا قد يُشتِّت الناس ويُضلِّل الرأي العام – مع الاعتذار من هذا الكلام -  وأنْ يأخذَ بعضهم بالحسبان أنَّ أحكام الدستور تختلف عن أحكام فروع القانون الأخرى، مثل القانون الإداري أو القانون المدني أو قانون الخدمة المدنية، التي يجنحُ لها البعض للاستدلال على حكم الدستور غلطاً وتوهماً .
* انتهى بتوفيق الله تعالى.