الاقتصاد والسياسة.. من يقود الآخر؟

اقتصادية 2019/12/20
...

عصام المحاويلي
 
من الممكن تشبيه أيّ بلد بالأسرة التي تتألف من مجموعة من الأفراد ولديها دخلٌ معين تعيش منه. هذا الدخل، بغض النظر عن مصدره، سواء كان ريعياً أو غير ذلك، يجب أنْ يوزّع بين كل هؤلاء ألأفراد، وقد لا يكون التوزيع عادلاً وبالتساوي تماماً، لكنْ يجب ألا يُحرم منه أحدٌ، فالكل يجب أنْ يأكل ويشرب ويلبس ويعيش حياة طبيعيَّة عليها مسحة من الكرامة وصون الإنسانيَّة في حدها الأدنى.
وفي هذه الأسرة تبرز عدة مشكلات وإشكاليات، لعلَّ أهمها وأخطرها هو دور الذي سيقوم بتوزيع الدخل على بقيَّة الأفراد وهو منهم ومعهم طبعاً؟ من الذي سيحدد المبلغ المستحق لكل فرد من الأسرة؟
إضافة إلى نقطة جوهريَّة أخرى وهي من سيراقب هذا الشخص حتى تضمن الأسرة حُسن التوزيع وتحقيق عدالة على مستوى مقبول؟
أمام هذا الشخص الذي تصدى للتوزيع مهمة شاقة وهي: رسم سياسات معينة لإدارة أرزاق الأسرة؛ وعند إعداد سياسته يجب عليه أنْ يضع في حسبانه أولاً عدد أفراد الأسرة، ومبلغ الدخل المتحصّل/ ومصادر الدخل، الى جانب ضوابط التوزيع (كأن تكون حسب الأعمار والجنس والمجهود المبذول من قبل الفرد لتحصيل الدخل الأسري ككل).
كما عليه أنْ يحتاط لحماية أسرته من الأسر المحيطة به خشية قيامها بسرقة دخله كلّاً أو جزءاً، لذا فعليه أنْ يضع السياسات الملائمة للحفاظ على أسرته من أي اعتداء أو محاولة اعتداء خارجي.
في هذا المثل البسيط ندرك أنَّ إدارة الموارد وإدارة توزيع الدخل وإدارة العلاقات مع الآخرين في خارج البلد، كلها توابع لسياسات داخليَّة يضعها من برز لقيادة الأسرة، أي البلد بالعبارة الموسعة في هذا المثل.
فلا معنى لاقتصاد لا يخدم غرضاً سياسياً وُضع سلفاً لخدمة البلد، ولا معنى لأيّ نشاط مهما كان في البلد من دون أنْ يخدم غرضاً سياسياً تم التخطيط له مسبقاً.
ولا يوجد شرخٌ بين الاقتصاد والسياسة إلّا في حالة وجود خلط فكري بين من أُوكل إليهم تنفيذ الفقرات السياسيَّة على شكل اقتصادي أو اجتماعي وبين الذين يضعون تلك السياسات، أي وجود تداخل بين السياسيين وبين المنفذين للسياسات.
ففي عالمنا المعاصر تحددت الاختصاصات وتنوعت المهام وكثُر المختصون في كل المجالات.
ولعلَّ هذا الكم الكبير من المختصين أوحى للكثيرين منهم بأنَّ لهم القدرات الفائقة في رسم السياسات وتحديد سياقات العمل معاً من دون إدراكٍ لخطورة هذا الخلط.
فلكل ذي اختصاص عمل، ولكل عمل رجاله، ولكل رجال إدراكهم، ولكل الإدراكات جذور علميَّة مدروسة تهدف أساساً لخدمة المجتمع.
وقد توحي المناصب بالقدرة على التخطيط السياسي الذي ينتج التخطيط الاقتصادي، وهذا ليس دائماً صحيحاً، فبعض المناصب لا يتقلدها أصحاب الفكر والعلم والإدراك الصحيح، وتكون أحياناً تشريفيَّة، خصوصاً في دول العالم غير المتطور صناعياً واجتماعياً.
ومن النتائج لهذا الخلط غير العلمي بين أهميَّة المنصب وأهميَّة التخطيط تُصاب البلاد بالكوارث الاقتصاديَّة التي تدمر الدخل والحرث والنسل.
ويبرز السؤال الأخطر من تداعيات هذا السياق: كيف يتم إعداد القائد الناجح الذي يرسم ملامح واضحة لاقتصاد بلده؟، وكيف تتم تهيئته لكي يتبوأ منصبه السياسي الذي سيتيح له رسم الخطوط العامة للاقتصاد في المرحلة المقبلة التي سيكون هو الحاكم فيها؟ ومن هم الرجال من ذوي الاختصاص الذين سيلجأ إليهم هذا القائد لكي ينفذوا سياسته الاقتصاديَّة التي رسمها لهم بشكل عام؟
هناك في دول العالم معاهد مخصصة لإعداد القادة، خصوصاً في الدول المستقرة التي لن يحصل فيها تبدلٌ مفاجئ لا في السياسة ولا في السياقات الاقتصاديَّة.
لكنَّ جزءاً كبيراً من هذه المشكلة يتمثل بندرة مثل هؤلاء القادة في المجال الاقتصادي العراقي، ما يولد فجوة في إدارة الملف الاقتصادي من قبل ذوي الاختصاص وأصحاب القرار.