جواد علي كسّار
لأنه يجمع بين الطبّ والسياسة، فقد وظّفهما معاً عن الغطرسة وأمراض زعماء الدول؛ فبالسياسة تُفتح له الأبواب إلى العروش والرؤوس، وبالطبّ يلحظ عن كثب الحالة الصحية للرؤساء والحكّام والكبار. في عام 1977م مثلاً زار موسكو والتقى بزعيم نصف العالم يومها ليونيد برجنيف، وقد طلبت منه مخابرات بلده أن يلحظ الوضع الصحي للزعيم السوفياتي، فتمّ اللقاء فعلاً ولم ير على برجنيف علامات إعياء بسبب مرضٍ يتكتّم عليه، كما كان يُشاع عنه في الغرب. لكن في مؤتمر عُقد في فيينا عام 1979م سقط برجنيف من الإعياء، بحيث حمله اثنان من أعضاء المخابرات الروسية، فكان مرضه الذي راح يتفاقم فرصة لكلّ من مدير المخابرات السوفياتية يوري اندربوف ووزير الخارجية اندري غروميكو وعدد من الجنرالات، لإتخاذ قرار بغزو أفغانستان، وهو القرار الذي وقّعه برجنيف في مكتبه بالمخادعة، وهو تحت ضغوطات المرض، ما قاد في النهاية إلى انهيار الاتحاد السوفياتي؛ بديهي مع عوامل أُخر.
كان مرض برجنيف بداية لما أُطلق عليه عصر العجائز الثلاثة في الاتحاد السوفياتي، ففي عام 1982م توفي برجنيف، ليخلفه اندروبوف الذي تسلّم السلطة في سنّ اثنين وثمانين، لتنتقل من بعده إلى كونستانتين شيرينينكو عام 1984م.
لقد كان من السهل على صاحبنا الطبيب الوزير، أن يلحظ وهو يشارك في جنازة يوري اندريوف بموسكو، أن خلفه شيرينينكو يعاني من مرض قاتل، فقد قدّر بمحض أن التقى به، أنه مصاب بتضخّم الرئة، كما استنتج ذلك من سماع صفير صدره. وبالفعل لم يبقَ في السلطة طويلاً، حين رحل عام 1985م، لتكون الامبراطورية السوفياتية، قد استبدلت ثلاثة زعماء في غضون ثلاث سنوات، قبل تصدّعها، وانهيارها المدوّي!
من المعطيات الإحصائية المدهشة في كتاب الطبيب ووزير الدولة البريطاني للشؤون الخارجية ديفيد أوين، أن 29 % من جميع رؤساء أميركا، يعانون من مرض عقلي، وأن 49 % منهم قد ظهرت عليهم ملامح موحية بوجود المرض العقلي في وقتٍ ما من حياتهم، وأن سبعة رؤساء كانوا يعانون من أمراضٍ عقلية، أثناء إدارتهم شؤون الحكم بين 1906 ـ 2006م، من بينهم تيودور روزفلت، وويلسن، وكوليدج، وجونسون ونيكسون.
أغلب أمراض الرؤساء تسترت عليها الأجهزة الطبية الخاصة، تحت شعار الموازنة بين مصلحة المريض ومصلحة الدولة. ففي فرنسا مثلاً، توفي الرئيس جورج بومبيدو سنة 1974م، وهو في سدّة الحكم نتيجة مرض أُخفي خبره عن الفرنسيين. كما تُستّر على مرض الرئيس متيران بسرطان البروستات، وتحوّل إلى سرّ من أسرار الدولة العليا، وكذلك أُخفيت إصابة الرئيس الأميركي جون كنيدي بالكآبة؛ وهو التستّر نفسه الذي تكرّر مع أمراض تشرشل وريغان وبوش الأب وتاتشر وبلير وبوش الابن وشيراك وشارون. اثنان فقط أجبرا على التخلّي عن السلطة رسمياً بتهمة الجنون، هما الرئيس الفرنسي بول ديشانال عام 1920م، والملك الأردني طلال والد الملك حسين.
العناد هو صفة أخرى يتسلّح بها أغلب الرؤساء المرضى، إذ يضرب لنا الطبيب الوزير أمثلة كثيرة، من بينها الزعيم الباكستاني المعروف محمد علي جناح وتكتّمه على مرض السلّ الذي كان في مرحلة متقدمة، إذ راح يواجه المرض وحده بحسب طبيبه الشخصي، ويعيش على: «قوّة الإرادة والويسكي والسجائر»، وقد تزامن مرضه مع الاستقلال، فأكد لطبيبه الخاص التزام أقصى السرية، ورفض تقليص نشاطه السياسي أو التوقف عن التدخين.
يقوم كتاب الطبيب والوزير البريطاني ديفيد أدين، المعنون: «في المرض وفي القوّة: عن متلازمة الغطرسة وأمراض زعماء الدول»؛ يقوم في الشقّ الطبيّ على تحليل العلاقة بين المرض والقدرة، ودراسة تأثير المرض على القيادة واتخاذ القرار. في حين يتناول في الشقّ الثاني دراسة العلاقة بين الغطرسة والسلطة، ليلحظ وجود متلازمة بين الاثنين، وان متلازمة الغطرسة تنمو عند مزاولة السلطة، وتنشأ عادة بعد سنتين من البقاء في السلطة، ما يدعوه بعد أكثر من أربعمئة صفحة من البحث والدراسة والتحليل، للدعوة إلى المزيد من تقييد السلطة، للتقليل من التبعات السلبية لمتلازمة الغطرسة!