احتجاجات العراق تترك آثارها في الاقتصاد
العراق
2019/12/21
+A
-A
سامية كلّاب/عن وكالة اسوشيتد بريس ترجمة: انيس الصفار
كانت آخر بقايا الدخان لا تزال تتصاعد من بقايا ليلة عنف أخرى عندما وصل العمال في الصباح لانقاذ ما يمكنهم انقاذه من الحرائق التي انشبت مخالبها في قلب الحي التجاري المركزي بمدينة بغداد.
حمّلت الصناديق تلو الصناديق، بما تحويه من ملابس ومواد تجميل كان التجار يخزنونها في أنشط أسواق البلد حركة، على وجه السرعة الى شاحنات البيكاب الصغيرة بقصد نقلها بعيداً عن شارع الرشيد، ذلك الشارع التاريخي الذي تحول على مدى الاسابيع الاخيرة الى مسرح للعنف المتواصل بين المتظاهرين المحتجين على الحكومة وقوات الأمن.
المحال مقفلة على جانبي هذا الشارع الكبير الذي كان يموج بحركة لا تنقطع بعد أن حلت رشقات الرصاص المنطلقة بين حين وآخر محل احاديث التجارة والمساومة للحصول على افضل الصفقات.
يقول احد التجار، واسمه صلاح رضا: “سنحمل ما نستطيع حمله ثم نغادر. بضائعي تتعدى قيمتها 1,5 مليون دولار، نصفها اختفى والنصف الاخر تدمر .. من سيعوضني عن خسارتي؟”
مع دخول انتفاضة العراق، التي لا يظهر لها قادة، شهرها الثالث الآن أخذت صدامات الشوارع المستمرة وانقطاعات الانترنت وتسدد الطرقات واجواء القلق المخيمة تشكّل تهديداً للاقتصاد العراقي. هذه الاضطرابات أصابت على نحو خاص اشد القطاعات هشاشة وهو القطاع الخاص، حيث يواجه اصحاب الاعمال خسائر تمثلت في تضرر بضائعهم واضطراب حركة الاسواق وعزوف الزبائن عن انفاق اموالهم خوفاً مما تخبئه لهم الأيام.
حتى الآن لم تؤثر الاضطرابات تأثيرات جدية في الشريان الرئيس للاقتصاد العراقي، أي النفط، الذي يدرّ 6 - 7 مليارات دولار شهرياً، أي ما يعادل 90 بالمئة من دخل الدولة، وصادرات النفط لم تواجه أي تقطعات، على حد قول مسؤولين كبيرين في وزارة النفط. الانتاج هو الآخر لم يتضرر من الاعتصامات المتكررة واغلاق
الطرق المؤدية الى حقول النفط الكبرى في الجنوب حيث مكمن الحجم الاعظم من موارد العراق النفطية.
بيد أن استثمارات المستقبل هي المعرضة للتهديد الان، كما يقول “زاب سيثنا” وهو أحد مؤسسي “شركاء شمال الخليج”، وهي شركة استثمارات لها خبرة عمل في العراق. لقد أخذ المستثمرون الاجانب ينسحبون من الصفقات في قطاع الطاقة ومن القطاعات الأخرى ايضاً.
يقول سيثنا: “كان لدينا داعمون أميركيون مستعدون للمشاركة وضخ أموال الى داخل العراق، ولكنهم ارتدوا على أعقابهم”.
هناك مستثمرون آخرون يقلقهم بطء محادثات تشكيل الحكومة الجديدة عقب استقالة رئيس الوزراء عادل عبد المهدي تحت ضغط الاحتجاجات. ومن المتوقع أن تسمي الكتل السياسية مرشحاً توافقياً جديداً خلال هذا الاسبوع لتولي منصب رئاسة الوزراء.
الخطوات الاصلاحية التي اتخذت بإحالة مدراء عامين رئيسيين ممن تخطوا سن 60 عاماً الى التقاعد سببت هي الأخرى قلقاً لدى الشركات التي كانت لها صلات وعلاقات عمل مع اولئك الموظفين القدامى. المفارقة هنا، كما يقول سيثنا، هي أن تلك الأمور التي يثيرها المحتجون في الشارع، مثل الفساد والبيروقراطية وعجز الخدمات العامة، هي عينها التي كانت تقف حائلاً دون الاستثمار منذ وقت بعيد.
يقول مسؤولان صناعيان كانا في خضم مفاوضات لتوقيع عقود مربحة في مجال الطاقة أنهما اخذا يتراجعان عن تلك العقود “لحين انجلاء الغبار”، على حد تعبير احدهما. كلا هذين المسؤولين تحدثا بشرط عدم الاشارة الى اسميهما.
أدى إغلاق المحتجين الطريق المؤدي الى ميناءي شحن البضائع الرئيسين في العراق في أم قصر وخور الزبير بين حين وآخر الى تعطيل النشاط التجاري لمرات عديدة. من اجل تعويض ذلك اخذ كم كبير من البضائع المستوردة يشحن من خلال المعبر الحدودي بين شمال العراق وتركيا منذ أواخر شهر تشرين الثاني. يقول حسين علي، وهو تاجر بطاطس: ان التأخيرات في أم قصر قد كلفته مبالغ تصل الى 6000 دولار عن كل حاوية، لذلك اختار الطريق البري عبر شمال العراق، ومن المعلوم أن اموال الكمارك التي تتأتى من الموانئ تعد مصدر دخل مهم للدولة.
لا تتوفر ارقام يستدل منها بدقة على حجم الخسائر الاقتصادية التي سببتها الاحتجاجات، وذلك لأن الانقطاعات حين تقع تكون مؤقتة في اغلب الاحيان أو لأن من الصعوبة الحصول على بيانات معتمدة.
وقال اللواء عبد الكريم خلف، المتحدث العسكري باسم رئيس الوزراء: ان الاحتجاجات كلفت العراق مبلغ 6 مليارات دولار في غضون شهر واحد، بيد أن هذا الرقم مستبعد، وفقاً لحسابات اجرتها وكالة اسوشيتد بريس، لأنه يعني أن تراجعاً جوهرياً قد أصاب إيرادات النفط.
بيد أن الآثار لن تمحى بسهولة عن قطاع العمل الخاص، الذي يعاني من التعثر اصلاً.
وكان البنك الدولي قد قال في وقت سابق: ان تطوير القطاع الخاص في العراق مسألة ضرورية لتحريك جهد تنوع الاقتصاد المعتمد على النفط، بالاضافة الى خلق الوظائف التي تلحّ الحاجة اليها. ولكن العراقيين لا يشعرون بحافز المجازفة وريادة الأعمال في ظل ضعف الانظمة والضوابط وارتفاع تكاليف قيام أي مشروع.
نتيجة لهذا كله يبقى قطاع العمل غير رسمي الى حد كبير محصوراً ضمن حدود مبيعات التجزئة على اساس التعامل النقدي المباشر، وهذا النشاط شديد الحساسية للتقلبات والاضطرابات.
يقول احمد الطبقجلي، كبير موظفي الاستثمار في “صندوق أي إف سي العراق”: “هناك قطاع غير رسمي هائل ليست أمامه اي فرصة للالتحاق بالقطاع الرسمي، فالعاملون في هذا القطاع ليست لديهم عقود او سندات ملكية، كل ما لديهم هو الاتفاقيات والتفاهمات، وبمجرد حدوث خطأ ما سوف يسقطون.”
في سوق الشورجة، وهو سوق بغداد الرئيس للبيع بالجملة، يقول التجار انهم ينظرون الى مكاسبهم وهي تتراجع يوماً بعد يوم منذ بدء الاحتجاجات في شهر تشرين الأول.
جزء من ذلك مرده ان الزبائن أخذوا يقللون من مشترياتهم، أما السبب الآخر فهو أن معظم الاضطرابات تحدث في شارع الرشيد وهناك تقع معظم المخازن التي يحتفظون فيها بسلعهم.
أما في جنوب العراق فقد اخذت اعداد متزايدة من اصحاب الاعمال الصغيرة والمتوسطة بالعودة الى نظام التسديد الشهري للقروض المصرفية، كما يقول مسؤول في اتحاد المصارف الخاصة العراقية طلب عدم ذكر اسمه.
قطاع التجارة العراقي المتنامي نزلت به هو الآخر اضرار جسيمة بسبب القطع الشامل لخدمة الانترنت الذي فرضته السلطات في شهري تشرين الأول وتشرين الثاني في محاولة فاشلة من جانبها لإخماد الاحتجاجات، كما يقول مجاهد ويسي، وهو متعهد ومؤسس شركة “كابيتا”. الشركة المذكورة حاضنة دولية للاعمال والخدمات المتخصصة كانت تتأهب للانطلاق في وقت مبكر من السنة المقبلة.”
يقول ويسي :ان الناس بقوا يتهيبون من الاقدام على الشراء حتى بعد عودة الانترنت بسبب الأوضاع، وبما أن معظم تلك المواد غير أساسية فقد آثروا إبقاء نقودهم في ايديهم. يضيف ويسي أن المشاريع التجارية المبتدئة تشعر بالتردد من الاعلان عن خدماتها عبر الشبكة خشية ان يتهمها المحتجون بعدم الوطنية.
كثير من التجار واصحاب الاعمال الذين ضاقت عليهم موارد النقد أخذوا يسرحون العمال بسبب تفاقم الأزمة.
يقول محمد حميد، الذي كان يشتغل عاملاً في شارع الرشيد: “انقضت علي 25 يوماً وأنا بلا عمل.” ويمضي مستطرداً ان صاحب المحل الذي كان يشتغل فيه أبلغه بعدم العودة اليه وقال له بالنص: “كيف سأتمكن من دفع أجرك الاسبوعي والمحل مغلق؟”