د. رسول محمد رسول
في مطلع آذار 2018، كنت ماراً في منطقة "باب المعظم" بالعاصمة بغداد، استوقفني الصديق المبدع محمد خضير سُلطان، وقال: "صدرت روايتي (شبح نصفي) وهنا نسختك". (صدرت عن الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق) كتب الإهداء، وهو تواصل رائع منه، ومضى كل منا إلى غايته، لأنصرفُ مسرعاً إلى وحدتي لكي أقرأها، وقرأتها حتى الأخير، لكنني بُعيد ذلك بقليل سافرت، لأقرأها - مرّة أخرى - فراقت لي بما فيها وضوح شعري في مبنييها؛ السردي والحكائي، لا سيما أن محمد خضير سُلطان، ومنذ الصفحات الأولى، يأخذ قارئ روايته هذه إلى صنيعه فيها، محتفياً بمنحييها؛ السردي كما الحكائي، وهو ما أبداه في العتبات/ الإشارات الثلاث: "نبذة تقنية"، و"المتن الحكائي"، و"إشارات أُخر".
عتبات
في "عتبة تقنية"، قال الناص: إنها "رواية أفكار" - ولعل ذلك يمثل منعطفاً في تأريخ الرواية العراقية - والروي فيها "استند إلى تأريخ عائلة.."، والسياق في هذه الرواية هو "سياق رمزي واقعي مختلط".
وفي "عتبة المتن الحكائي"، تحدَّث الناص (Textor) أو محمد خضير سُلطان عن مروية أولى، ومروية ثانية، وعن مروية ثالثة، ولعل ملفوظ "مرويّة" يجعلنا بصدد فاعل حكائي من داخل الحكي مثل: "حكايات الجدّة"، و"مذكّرات الأب". أما في العتبة الثالثة فيأخذنا الناص إلى الواقع - الواقعي مثل: عالَم الاجتماع العراقي عبد الفتاح إبراهيم (1904 - 2003) في كتابه (على طريق الهند)، 1932 بغداد، طبعة ثانية 1935، وجداريّة أو (نصب الحريّة) الفنان العراقي جواد سليم لسنة 1961 "المنحوتة الرابعة" بوصفهم فاعلين (Actors) في المبنى الحكائي، ومن ثمَّ رسوم وشعارات واستعارات رافدينية
وماركسية.
وعندما ننظر في مديات جسديّة النص نجد أنه مقسَّم إلى خمسة مفاصل، وكُل مفصل يقسّمه الناص إلى فصوص، فجاء المتن الجسدي إلى 33 فصاً في خمسة مفاصل.
يترك محمد خضير سُلطان الروي لعدد من الفاعلين في داخل الرواية، فالعائلة أو "آل فالح"، يقول الراوي الأول: "ينتدبون رواتهم" (ص 8) - وذلك اصطلاح لا بمعنى المصطلح Term أنما الاتفاق المتعارف عليه Convention داخل العائلة - فآل فالح عاشوا "مئات السنين بحثاً عن الملك المُضاع بين أرض السواد
والصحراء" (ص 9).
وينحى السرد لدى الناص صوب السرد المفتون بذاته (Metafiction) عندما يقول بلسان الراوي الأول "أسعد": "منحني أخي الكبير زيدان الفالح سبعة دفاتر تؤلِّف يوميات أبي"، ويردف: "كتبتها في مروية ثانية" (ص 12) كتأكيد تطبيقي لتوجُّهات السرد المفتون بذاته، ولاستعادة سردية ما مضى في خلال القرن العشرين ليس بعيداً عن شواخص المكان، أي: جداريّة جواد سليم، ومبنى الكلية العسكرية/ الكرنتينه، وطريق شارع الهندي في بغداد حيث يوجد بالقرب منه منزل آل فالح (انظر:
ص 35).
ما بعد السرد
ونلاحظ في الصفحة 15 وما بعدها تداخلاً لذيذ الطيّات للراوي "أسعد الفالح" مع الأمكنة أو "المشي أمام مائة عام" من تأريخ بغداد. إن معول السرد، وكما يرد بلسان "أسعد"، هو: "إن كل الوقائع الغامضة هي شفوية لا تستوي إلا في التنظيم والتدوين والأوراق البيض الملآنة بالملاحظات دائماً ما تخفف غربة الأشياء وتطلق تجلياتها مثل انبلاج فجر قديم" (ص 33)، وتلك هي فلسفته في
السرد.
ويتحدَّث الناص عن مصادر "قراءة طيفية" يُجربها "أسعد الفالح" الابن، وهي قراءة مركّبة المصادر؛ "تسجيلات أسعد نفسه للوقائع اليومية"، و"حكايات العائلة، خصوصاً الجدّة الكبيرة الراحلة نسيانه" أو "ننسون" (انظر: ص 33)، و"مذكّرات الأب"، و"كتاب عبد الفتاح إبراهيم على طريق الهند"، الذي يعدّه أسعد "دكّان أعشاب" (ص 27). وبين كل ذلك سيسعى أسعد بالمشي سرداً في فضائه المكاني على "طريق الهند القديم في خلال مائة عام تربط بين موقع الكلية العسكرية وجدارية جواد سليم وما بينهما من تأريخ عائلته الضارب في مئات السنين" (ص 28). لكن أسعد، وهو "طالب في الدراسات الإنسانية" (ص 33)، والراوي في المتن الحكائي أيضاً، يقارب بين أبيه وعبد الفتاح فيقول: "أبي ترك وصيته التي لم تُنفّذ، وعبد الفتاح ترك معرفته التي لم تُطبّق" (ص 32).، وهو جانب يمثل إحباطا في عالمنا الثالث وفي ضمنه العراق.
ينداح السرد إلى الحكائي نحو شخصيات عائلة آل الفالح والفاعلين في مدارات حكايتها الكبرى مثل: الأم ننسون، وبيت آل فالح، والابن الأكبر زيدان، وبقية الأبناء؛ إياد، وأحمد، وأسعد، والبنات مثل: نسيمه وحسنيه، وزوج هذه الأخيرة، والخزانة النحاسيّة، والأملاك، وبالتالي الصراع على الورث، وصراع المستأجرين معهم.
يأخذنا الناص إلى بنية السرد المفتون بذاته، يأخذنا إلى المرويّة الأولى "أبناء حوريّة الماء"، وتبدأ معها حكايات الجدة التي روت سابقاً لأحفادها عن أصل العائلة. ومن ثم تتواصل مروياتها مدوّنة بقلم "أسعد" (ص 60) عن الأرض والإنسان وفجر العائلة ورحلة نزوح القوافل من الأمكنة إلى غيرها مثل سكان الهور، ولصوص القطار والأرياف، ومعارك وصراعات القبائل، وأحاديث عن محطات السفر، وتحوّلات المدنيّة بالعراق ومخاوف الأهالي من مظاهر التحديث، وانتقالات آل فالح في خضم كل تلك المتغيرات.
مدوَّنات وزمانية وطن
يسلم الأخ الأكبر مذكّرات الأب لأخيه "أسعد"، الأب الذي كتبها بخط يده في سبعة دفاتر، لكن "أسعد" يروم إعادة "كتابتها باسمه"؛ بل ويروم أن "يسجلها ملكية خاصة" (ص 81)، وهذا تضمين في دائرة السرد المفتون بذاته واضح المعالم راح الأخ الأكبر يقتنع بفكرة أخيه "أسعد" بوصفه "المولد الثقافي لأملاك العائلة" (ص 82)، وتبدأ فصول معينة من تأريخ العراق ليس بعيداً عن جدارية جواد سليم، لكن الناص يمد الماضي بالحاضر، ويذهب "أسعد" إلى مكانيّة الجدارية - وهي فاعل (Actor) في الحكاية - متأملاً فيها بوصفها حدثاً أبدع الرائي كثيراً في التناص الحكائي معها، ولا يريد "أسعد" نشر نصوص والده كما هي، فهو يقرأها "ليكتب مرويته" (ص 99)، فهو لا يريد الخروج من زمانيته التي يعيشها رغم مثول زمانية الأب أمامه ورقاً وتدويناً بما كتبه عن سنوات من خمسينيات وأخرى ساخنة من ستينيات القرن العشرين وهما عقدان سياسيان فيهما الكثير من المتغيرات الجذرية على صعيد بنيتي الدولة والمجتمع في
العراق.