هل من منقذ لمورفولوجية مدينة بغداد؟

آراء 2019/12/24
...

 د.عبد الواحد مشعل
لا بدّ من التأكيد أن دراسة هذا الموضوع قد تزايدت الحاجة إليه مع توسع حدوده واهتمامات عدة من لدن الباحثين المهتمين بدراسة المدن وتحولاتها الحضارية والعمرانية، وبغداد من المدن العربية العريقة بحضارتها وقيمها الاجتماعية والثقافية من أهم تلك المدن، فهي تتميز بحضريتها واستقبالها لعناصر الحضارة الحديثة،  من أوائل المدن العربية التي دخلها البث الإذاعي والتلفزيوني، كما إنها من المدن المميزة التي برزت فيها الطبقة الوسطى إبان العهد الملكي كما نشط المثقفون والكتاب والشعراء والحركات الوطنية التي كافحت من اجل إثبات وطنيتها وارتباطها بالتراب العراقي.

الأبعاد التاريخية والثقافية
  تتأول الابعاد الانثروبولوجية والتاريخية ولاسيما العمرانية والثقافية والتراثية المتمثل بعمقي التاريخي ونموه الحضري في اطار مورفولوجي تدرج بمراحل عدة، من العهد الملكي الى نهاية السبعينيات ومنتصف الثمانينات من القرن الماضي قبل أن تنحدر مستويات مورفولوجية الى مستويات متدنية نتيجة غياب التخطيط وعدم وجود آليات حديثة تشكل التطور المورفولوجي المتناغم مع توسعها سكانياً ومساحةً. 
 أما من حيث البعد السياسي والثقافي فقد تشكلت الهوية الوطنية في عهد الدولة الحديثة منذ عام 1921 ليكون الطابع الحضري العلماني الذي رسّخه الملك فيصل الاول ليكون رمزا ميز حياة الناس ووضع أسس الحراك الاجتماعي ودور الطبقة الوسطى فيه، ولاسيما في تشكل الحس المدني، كما أن المدينة تميزت بتطورها المورفولوجي من الشكل التقليدي إلى الشكل الحديث  لتدرس محلاتها وشوارع وأسواقها في جانبيها الرصافة والكرخ خلال القرن العشرين.
 
 بغداد في العهدين الملكي والجمهوري
  يقودنا هذا الى دراسة التحولات البنيوية في مدينة بغداد، فالتوسع المورفولوجي واقتصاديات مدينة بغداد في العهد الجمهوري وتثوير المجتمع. تضمن تحولا سياسيا أثر في البنية العقلية الثقافية البغدادية ومدى تأثرها بسياسة توطين المهاجرين الريفيين فيها، فضلا عن طبيعة الصراع السياسي والأيدلوجي والانقلابات العسكرية وانعكاسه في الثقافة البغدادية وتأثيره في الطبقة الوسطى  والآثار المترتبة  عليه وطبيعة التحولات الاجتماعية والثقافية التي شهدتها مدينة بغداد.
 
 التغير الثقافي  والتحولات 
الاجتماعية والاقتصادية 
منذ التحول المعرفي الانثروبولوجي نحو الدراسات الحضرية خلال ستينيات القرن الماضي، انطلق الاهتمام بدراسة المدن الحديثة لذا ساعدت المعرفة  التراكمية المخططين على الانتقال الى حقبة جديدة من التغيرات التي لم تألفها المجتمعات الإنسانية في تاريخها الطويل،
مثلت فترة السبعينات عصر النهضة الحضارية وتنامي الحس المدني والقانوني في المدينة العراقية فارتفع المستوى المعيشي، وازدهر التعليم بمراحله كافة كما ونوعا، كما تطور الوضع الصحي الخدمي، وشهدت بغداد بناء بنى تحتية متطورة وراسخة، وازدهرت الصناعة الوطنية، وتطورت الزراعة في العراق ككل، إلا أن غياب الرؤية السياسية والثقافية اللازمة لمستقبل البلاد انعكس سلبا على الوضع العام في العراق، فدخل في دوامة الحروب، فتشوهت الجوانب الأيكلوجية والثقافية والاقتصادية للمدن العراقية بشكل عام ولمدينة بغداد بشكل خاص، فتراجع حسها المدني مقابل المد العشائري وعسكرة المجتمع، مما أدى الى  تراجع الفن والأدب والانجاز العلمي وغاب التخطيط المستقبلي اللازم لمواجهة تمدد المدن، وازدياد حاجات السكان المختلفة.
 
   أنقذوا مورفولوجية المدينة 
تمر مدينة بغداد في المرحلة الحالية بمرحلة ترييف خطيرة طغت على المظاهر الحضرية وتنظيماتها المؤسساتية العقلانية حتى تشوهت المدينة اليوم فكثير من المساحات الخضراء تم تحويلها الى استعمال سكني وتقطعت مساكنها الى قطع صغيرة  شيدت عليها مساكن صغيرة وصل البعض منها الى مساحة خمسين مترا مربعا حتى تحولت كثير من مساكنها الى ما يشبه الدكاكين ولاسيما في المناطق الشعبية ثم انتقلت العدوى الى بعض المناطق بغداد الراقية التي تجزأت مساكنها الى مساحات صغيرة ما ولد ذلك ضغطا متزايدا على الخدمات، ولاسيما الصرف الصحي والكهرباء والماء، فضلا عن مظاهر الاكتظاظ السكاني سواء في الأسرة الواحدة أو على صعيد المجتمع المحلي. 
أما من حيث البعد المورفولوجي فلم يعد هناك اهتمام بشكل المدينة وتقسيماتها، ناهيك عن التلوث البيئي الذي يضرب أطنابه في أرجاء المدينة نتيجة التزايد الكبير في عدد المركبات بأنواعها المختلفة، فضلا عن ضيق شوارعها وغياب حالات التوسع فيها، إذ تؤكد دراسات المدن انه من الضروري أن تجري على المدن إعادة تخطيط ومراجعة لكل عشر سنوات لمعرفة حجم السكان وكم تحتاج المدينة الى توسعات في مجال الخدمات وغيرها، وهذا غائب تماما عن المدينة العراقية الحالية ما زاد حجم مشكلاتها 
تعقيدا.
إن مورفولوجية مدينة بغداد للأسف تزداد تشوها يوما بعد آخر، وهذا يتطلب تحركا سريعا من المعنيين على الأصعدة المختلفة من اجل إنقاذ المدينة ووضع الحلول المناسبة لها من خلال تشكيل فريق عمل فني يستعين بالخبرات العالمية لرسم ملامح جديدة لمورفولوجية المدينة ابتداء من مركزها الى أطرافها ووضع آليّة جديدة لخدمة المواصلات سواء على صعيد إقامة مترو الإنفاق وتوسيع شوارعها وإقامة المجسرات اللازمة، فضلا عن وضع مخططات لاستعمالات الأرض سواء في ما يتعلق بتوزيع الأسواق والأحياء السكنية وإيقاف العمل في تقطيع المساكن الى مساحات صغيرة وإيقاف الزحف على المناطق الخضراء ووضع برنامج لتدوير النفايات وتزيد المدينة بالأشجار دائمة الخضرة وإنارة الشوارع والاهتمام بالمناطق التراثية وإدامتها وتزويد المدينة بشبكة مياه نقية، فليس من اللائق أن تباع المياه المصفاة في  مختلف مناطق بغداد في الوقت الذي يشق نهر دجلة مدينة بغداد من شمالها الى جنوبها. فهل من منقذ لمورفولوجية مدينة بغداد؟.