د.عبد الواحد مشعل
تقاس نهضة أي مجتمع في اختيار المقاربة المنهجية الملائمة لثقافته بطريقة مقننة، وبشكل يعكس تحقيق مستويات متقدمة في تلبية حاجاته الإنسانية،كمدخل لتحديد هويته الوطنية، وبما يضمن للإنسان حرية الفكر والرأي واختيار الأسلوب الملائم في الحياة على وفق الخطط العريضة لثقافة المجتمع بجذورها التاريخية والثقافية، وهكذا وجدت المجتمعات الإنسانية في تجاربها المختلفة فرصة اختيار فلسفة الدولة المتفقة مع تطلعات الناس، وبهذا نهضة المجتمعات المتقدمة حينما تبنت المنهج العلمي، بعد أن وضعت خلف ظهرها المنهج الأفلاطوني الذي كلفها وشعوبها ثمنا باهظا خلال التاريخ، ولاشك أن ماهية المنهج الأفلاطوني يقوم على أساس الأسود والأبيض، إذ لا مجال للجدل إلا في هذا السياق، يعتمد أصحابه في أكثر الأحيان على الأدلة العقلية والنقلية، بطريقة لا نهاية لها بين طرفيه،لأن كل طرف لديه من تلك الأدلة ما لا نهاية له، أما المنهج العلمي فيقوم على أساس التجربة وعلى المعطيات المتوفرة التي يفرزها الواقع الاجتماعي، بحيث يكون للحقيقة أكثر من وجه، فما تراه أنت صحيحا يراه الطرف الثاني خطأ أو غير ملائم، بينما يكون للطرف ثالث وجهة نظر
أخرى وهكذا.
ان نهضة الدولة الحديثة بنيت على أساس اتخاذها المعرفة منهجا رصينا لها، وبها حققت تقدما علميا وتقنينا وأحدثت تغيرا بنيويا ، تواكب مع ما وصل إليه المجتمع من معرفة وبقدر تمكنه من تطويعها في خدمة الإنسان في المجالات المختلفة. بهذا انطوت صفحة الامبورطوريات والنظم الشمولية القائمة على أساس الأحادية، سواء في الأيدلوجية أو في التوجه السياسي والفلسفي لتحل محلها التعددية القائمة على أساس قبول الآخر واحترامه واتخاذه طرفا مكملا له، وهكذا نشأ نمط جديد من الدول وهو النمط المدني الذي يقوم على التقاليد الديمقراطية التي تتخذ من البرنامج الناجح منهجا في بناء الدولة وفلسفتها، وقد غاب عن الناخب الاختيار على أساس العرق أو الدين أو
اللون أو النوع.
اليوم نحن نقف أمام مرحلة صعبة في تحقيق النموذج الذي ينبغي أن يكون على وفق المنهج العلمي مقابل سيادة المنهج الأفلاطوني القائم على أساس الآراء المطلقة دون النظر إلى الحاجات الأساسية أو الاعتماد على تنمية معرفة تقود الإنسان إلى تحقيق نمط الدولة التعددي البعيد عن التقاسم أو ما يعرف بـ(المحاصصة السياسية الطائفية والعرقية) والذي يعد أهم معوقات قيام الدولة المعتمدة على مقاربة علمية تضع الإنسان أمام اختيار سليم يكون البرنامج هو المعيار، بحكم سيطرة سلطان الثقافة السائدة في المجتمع العراقي الذي لا يزال يفرض على إفراده وبدرجة كبيرة، طريقة الاختيار في العملية الانتخابية والتي يجد نفسه بسببها مقيدا بأسوار الطائفية أو العرقية،فيكون الاختيار في أحسن الحالات لا يخرج عن قواعد المنهج الأفلاطوني، من دون إمعان النظر في مصلحته النهائية، والمتمثلة في بناء الدولة القوية ،اقتصاديا وعلميا وإداريا وثقافيا.
تعيش الطبقة السياسية العراقية بكل مشاربها اليوم جدلية منهجية في بناء الدولة، ومسألة الخروج من هذه الأزمة ليس سهلا، ولا يمكن أن يكون بالنوايا الحسنة وحدها بقدر ما يكون بالعزم المخلص على تجاوز كل العقبات التي تعترض ذلك.
ان خروج الطبقة السياسية العراقية من أزمتها تلك لا يمكن أن يحصل إلا عن طريق المراجعة النقدية لأفكارها، وبيان الخلل الحاصل في بنية الفكر السياسي العراقي والوصول إلى رؤية واقعية تخدم العراق ومستقبله، فالعراق بلد غني بثرواته الطبيعية والبشرية ويحتل موقعا حيويا في خريطة العالم عامة، والشرق الأوسط، لاسيما إذا أراد أهله بإخلاص تقدير ذلك فأنهم سيجعلون منه دولة محورية، تحقق تقدما حضاريا مميزا بعطائها الإنساني عندما تشرع في بناء تجربتها التنموية النهضوية،وبمقاربة منهجيةعمادها المعرفة بكل تفرعاتها، كي تحقق نهضة صناعية وزراعية، وبناء مرتكزات المؤسسات الحيوية التي يحتاجها الإنسان في حياته اليومية في مجال الصحة والتعليم والخدمات، وفي بناء الثقافة الإنسانية الايجابية التعددية التي يأخذ الإنسان في ظلها حقوقه المدنية ويسهم بقدراته في نهضة الدولة وفلسفتها
الحضارية.
تستطيع الطبقة السياسية اليوم أن تتجاوز كل العقبات التي اعترضت قيام الدولة التي حلم بها الإنسان العراقي خلال المرحلة الماضية من خلال مراجعة كل السياسات السابقة محليا وإقليميا ودوليا ومن ثم رسم خريطة سياسية جديدة تقوم على التفكير العلمي في إدارة الدولة وتأكيد هويتها على وفق رؤية واقعية يقرهاالمجتمع العراقي، ويترجمها إلى واقع عمل، فبدون مشاركة الجميع تبقى الدولة تعيش لفترة طويلة مرحلة تكوينية وجدلا منهجيامن دون أن يفضي الواقع إلى نتيجة ملموسة ما يزيد معاناة الإنسان، ويفقده الأمل، مما ينعكس سلبا على بلورة فكر سياسي عراقي قادر على اختيار منهج علمي مناسب ينقله إلى مرحلة النهضة الحضارية، والدولة القوية، لاسيما ان عناصر النهضة متوفرة فيها إذا حسن إدارتها سواء في الاقتصاد أو السياسة أو التنمية أو الأمن، فلا ينقص الطبقة السياسية إلا الإرادة الصلبة والالتفاف حول رؤية وطنية شاملة، وإدارة كل الملفات مهنيا على وفق خطة مدروسة لبناء الدولة الحديثة، وتنقيتها من عناصر الهدم وفي مقدمتها
الفساد.
ان المجتمع العراقي ينتظر من الحكومة الجديدة الاتجاه في هذا الطريق وعدم ضياع مزيد من الفرص، فالزمن الذي يعيشه العراق زمن صعب ولا يحتمل الجدل بقدر ما يتطلب الشروع بالبناء التنموي الذي إذا ما كتب له النجاح ستحل كثير من أزمات الإنسان، أو على اقل تقدير إيقاف حالة اليأس برجاء وأمل جديد قد يتحققان مع ترك الطبقة السياسية جدلها ونزولها للعمل المثمر، فإذا ما تحقق ذلك عندئذ يمكن أن نقول ان هوية الدولة وهيبتها ومنهجها بدا يتبلور وستكون نتائجه ايجابية على غير ما رآه الإنسان العراقي خلال السنوات المنصرمة من عمر النظام السياسي العراقي الجديد.