النُسخة الفاليرية.. {الشهوة المجنونة}

ثقافة 2020/01/11
...

محمد الحدّاد
ربما كانت إحدى أكبر الذنوب القليلة التي اقترفها فاليري في مسرحية “فاوست” هي في كتابتها بعد أن كتبها “جوته”.. فبرغم روعتها الشديدة وعذوبة صياغتها كانت تسقط دائماً في بئرِ المقارنة الذي لم تخرج منهُ حتى اليوم.. فلم ترقَ في نظرِ النُقاد الى عظمة فاوست جوته أبداً.. رغمَ أنهُ صاغ منها لوحة موسيقية جميلة امتزجتْ فيها أصواتُ الكلمات بألوانِ الصور.
لا أدري لمَ تبدو لي هذهِ المسرحية كعملٍ ناقص.. “وربما كانت كذلك بالفعل”.. كأنَّ بضعة حبّاتٍ اُسقطتْ عنوةً من مسبحتها.. وأعتقد جازماً أن فاليري لم يفقدْ أبطالهُ منتصفَ الطريق بل اختارَ إضاعتهم لخوفٍ مدفوعٍ بعدمِ تيقنه الجازم من استكمال أركان قدراتهِ الكافية لوضعِ إجاباتٍ حاسمة.. ليس لعدمِ جرأةٍ على البَوح “وهو الذي لم يُخفِ أبداً ازدراءهُ واستخفافهُ بالأديان في حياتهِ وأدبه” بقدرِ خوفهِ من الوقوعِ في شِراكِ التناقض بين اعتقاده هذا وبين مقاربة الحلول التقليدية لأية نهاية أخرى محتملة فيما لو سجّلَ انتصاراً لفاوست على الشيطان “مفيستو” فيسجل حينذاك خسارة فاليري نفسه.. هذا عدا أن تقشيرهُ للمأساةِ نفسها لم يُبقِ منها إلا خلاصة ثيمتها الرئيسية المتمثلة بعقدٍ اُبرمَ بين الشيطان وفاوست.
البطلُ الحقيقي هنا مفيستو بلا منازع وليس فاوست.. يكفي أن نعلمَ أن المسرحية المكونة من ستة عشر منظراً موزعة بين ثلاثة فصول.. حصة فاوست منها خمسة مناظر فقط.. أما مفيستو فحصتهُ ثمانية مناظر.. ولكلٍّ من الفتاةِ “لوست” والتلميذ الشاب سبعة مناظر “ثلاثة منها وحده تماماً”.. أما فاوست فيبدو على النقيض مما رُسّخَ لهُ ميثيولوجياً في الأذهان.. فبشريتهُ ظاهرة للعيان أكثر مما تستدعيه اللعبة.. ثمة تَعقّلٌ لا يليقُ بفاوست الأسطورة.. حالمٌ مشوشٌ.. ينبعُ الخيرُ عندهُ من الشر.. والشرُّ من الخير .. ولا تكادُ تلمسُ فيهِ طموحَ فاوست جوته الجامح.. لكنني مع ذلك لم أقرأ في شخصيتهِ ضعفاً يؤشّرُ لخواءٍ بقدرِ ما أرجّحُ تأثير استقلاليته العالية التي شكّلتْ حصناً منيعاً كان من العسير على الشيطان مفيستو أن ينفذَ من خلاله.. وهذا ما يبررُ برأيي قصر لحظات التصادم أو التلاقي بينهما أثناء العمل.. كأنَّ روحَ راهب العقل والنفس “تيست” التي عبّرَ عنها فاليري في “ليلة مع السيد “تيست” قد سَكَنتْ روحَ فاوست في بعض صفاتها فكان حقاً سيدَ عقله.. لكن ذلك لم يَحلْ دونَ خلوّ حياته والعمل ككل من تلك العوالم الأرضية والسماوية.. أو امتزاج المعرفة بالخيال والواقع بالأسطورة.. جُلُّ اهتمامه أن يؤلّفَ الكتب.. ينقصهُ الاندفاع.. لا تحرّكهُ رغبة ولا يدفعهُ إليها ارهاص.. أجملُ أعمالهِ هي الحياة نفسها.. إذا تنفسَ هواءها فهذا كل شيء.. ومنتهى الكمالِ فيها يكمنُ في استغنائهِ عمّا ينقصهُ من أشياء.. لكنهُ بارعٌ في الفلسفة والتحليل إلى الحدِّ الذي يعتقدُ فيهِ أن أساليبَ الشيطان أصبحت قديمة.. لأن الانسانَ أصبحَ أكثر شيطنة منه.. إذ يسخرُ فاوست من كل أسلحة مفيستو الشيطانية التي اكتسبها لقرونٍ طِوال منذ بدء الخليقة.. ويُعرّيه من كل امتياز: “فيما كنتَ تستسلمُ للخمولِ في أبديتكَ معتمداً على وسائلكَ التي اتبعتها منذ الأزل.. وصلَ الأمرُ وفِكرُ الانسان الذي أنتَ خلّصتهُ من بلاهتهِ إلى حدِّ مهاجمتهِ أسرار الخليقة”.. ثم.. “لم تعد الرذيلة أو الفضيلة سوى خصلتين يصعبُ التفريقُ بينهما”.. ليعترفَ مفيستو لفاوست بالأستذة بعد هذهِ التعرية المخجلة لما قطع بهِ لنفسهِ من امتياز غير مسبوق بالمثابرة في الخطأ الأبدي.. اعترافٌ لا ينقصهُ المزاح بشكلٍ ربما انفردَ فاليري برسمِ أجوائهِ الكوميدية الطريفة: “خُذ قَرنيَّ بعدَ هذهِ المواجهة.. وعلى أية حال سوف تستلمُ قرنيكَ نظيفين يا مُعلمي»! 
إذن لا يبدو الأمرُ هنا أكثر من محضِ لعبةٍ أو أحجيةٍ طرفاها فاوست ومفيستو في عملية تبادل مراكز وأدوار.. دونما ولوجٍ للتعقيد الأسطوري أو الفانتازي.. كأن الصدفة وحدها مَنْ قادت الطرفين لاتمامها.. الطرفُ الأقوى اندفاعاً لابرامها هو مفيستو وليس فاوست.. غرضُها السياحة في الكون في مغامرةٍ خاصة.. ثم تأليف كتابٍ ضخم يُساعدهُ مفيستو في انجازهِ كخلاصةٍ لهذا الانطلاق في الأبدية وعوالم الأرواح وأغوار النفس.. مزيجٌ من الحقيقة والوهم والصدق والزيف والنظرية والاستنتاج.. يُسجّلهُ فاوست بأسلوبهِ هو.. بذبذباتِ نفسهِ وَوَثباتِ روحه.. يُقدّمها للناسِ كقصيدةٍ يحفظها الجميع.. مَنْ يقرأها لن يضطرَ لقراءةِ كتابٍ آخر بعده! 
يُشكّلُ هذا الكتاب – السِفر عِبئاً على فاوست يكادُ يخنقُ أنفاسه ويريدُ انجازهُ بأي شكل.. ثم “لينفلتَ إلى الأبد من كل ما هو مشابه لشيء ما”.. متحولاً بهِ إلى غازٍ متواضع.. رغم أن المسرحية أغفلتْ ذكر أية تفاصيل أخرى لانجاز كل ذلك بعد طرحها كفكرة.
 
مفيستو فاليري
يبدو مفيستو كمَنْ يؤدي واجباً انتُزِعَتْ قُدسيتهُ بمرور القرون.. مُسيّرٌ مجبورٌ على وسوسةِ البشر: “كان لا بدّ من أحدٍ يؤدي هذهِ الفريضة.. أنا مخلوقٌ مثلكِ يا لوست.. أليسَ حتماً عليكم الوقوع في الغواية؟ ألا أقومُ بما فُرضَ عليّ؟ ماذا يكونُ الجزاء بدوني؟ أنا كل الخطرِ اللازمِ لاقامةِ الحق!» وفي خضمّ متناقضات الحياة هو لا يعرفُ الحلول الوسط: “أنا أكثرُ استقلالاً.. أنا الشرُّ الخالص تماماً”.. وللدم نكهة خاصة عندهُ.. خاصة لحظة ابرام العقد حينما يستبدلُ المِداد بدم فاوست “ككل الذين كتبوا قصة فاوست.. وأظن أن جوته كان الاستثناء الوحيد في ذلك”.. ورغم أن مفيستو متحدثٌ لَبق ويُجيدُ اعطاءَ تفاسير جاهزة لكل شيء لكن فاليري أظهرهُ بمظهرٍ مُغايرٍ لمفيستو الأسطورة.. شيطانٌ لطيف ببدلةٍ أنيقة وهندامٍ نظيف.. بشريٌّ إلى حدٍّ ما بكل المنطق الأرضي المحدود.. وأبعدَ ما يكون عن العاجية اللامُدرَكة لشيطانٍ اسطوري أزلي.. ضعيفٌ يعترفُ بضعفهِ أمامَ البشر: “بمجردِ أن يبتعدَ هؤلاء المجانين عن الغريزةِ أتوهُ أنا في أهواءِ وانفعالاتِ رؤوسهم التي يدعونها أفكاراً»
يتحدثُ مفيستو مع لوست عن التلميذ الشاب فيقول: “ليس بمقدوري أن اُسيطرَ على حريته.. إنهُ حرٌّ وأنا مُقيدٌ بالسلاسل.. لا أستطيعُ سوى المحاولة.. التجربة.. الغواية لكن الاختيار يظلُّ ملك يديه آخر الأمر! الروحُ في يقظتها تستطيعُ أن تفلتَ مني.. إنها عملية صراعٍ يا لوست”.. وضعفهُ هذا مُشخصٌ ومفضوح.. فبالرغم من الفزع الشديد الذي تُظهرهُ لوست طوال المسرحية وبالرغم من الكرهِ الذي ربما كان صفة مشتركة لجميع نساء فاوست عند جوته وفاليري وحتى مارلو.. فإنّها لا تُظهرُ أية صعوبةٍ في قراءةِ مفيستو ككتابٍ مفتوح: “قلبي غامضٌ بالنسبةِ لك كما هو غامضٌ بالنسبةِ لي ومع أنكَ شيطانٌ لا تستطيع فهم ما فيه.. أنتَ شيطانٌ مُنحَط مهزوم.. ضعيفٌ وخائب”.. ضعفهُ هذا يتبدى جليّاً حتى مع شياطينهِ الذين يُفترضُ أن يأتمرونَ بأمرهِ بينما هم لا يتوانونَ عن الضحكِ عليهِ حتى وهو يشتعلُ غضباً مُحاسباً اياهم على تقصيرهم.. بل هو عاجزٌ حتى مع أمضى أسلحته :الغواية! عجزَ أولاً في اغواءِ فاوست ليحب الفتاة لوست.. وعجزَ عن اغوائها لتحبَ التلميذ الشاب! وبعد ذلك كله.. يُحيّرهُ ذكاءُ فاوست ويُربكهُ قلبُ لوست ونفسها! يقولُ لها:”إن قلبكِ يُربكني.. يُحيّرني كما يُحيرني ذكاءُ فاوست ويقظتهِ المفرطة”.. ويقولُ لنفسهِ: “لقد تهتَ في هذا الفاوست الذي يبدو أنهُ يفهمني خلاقاً لِما يجبُ أن يفهمني.. لقد تهتُ في عقلِ فاوست وفي نفسِ لوست.. توهانُ الشيطان فأنا لا أعرفُ التفكير وليس لي عقل .. لهذا لا أعرفُ إلا واجبي!»
انفردَ فاليري بعودةِ فكرة الغواة البدائية.. ميثيولوجية الثعبان الغاوي وأكل الفاكهة المُحرمة.. “الخوخة هنا كبديل للتفاحة”.. خوخةٌ لذيذةٌ من بستانِ مفيستو ليوسوسَ مع كلِّ نسمةِ هواءٍ أو شذى عطرٍ أو جدولٍ رقراق..الاغواءُ الذي عقوبتهُ الخروج من الجنةِ والزحف على البطنِ إلى الأبد.. لكن الحبَّ يظل بدون وسوسةِ الثعبان “بصيصُ ضوءٍ زائلٍ وعملٌ سخيف” لذا لم يتبقَ لهُ إلا شهوتهُ المجنونة!
 
الشهوةُ المجنونة
جُملةٌ رنانة يدسّها مفيستو بين أوراقِ فاوست.. يُقدّمها إليهِ مجاناً دون انتظارِ كلمةِ شكرٍ واحدة منهُ ليشدَّ أنظارهُ إليها بقوةِ السحر التي تُمثلها كلمتان.. يكتشفُ فاوست تلك الجملة بالصدفة متوهّماً أنها من بناتِ أفكاره.. حينما تقرأُ السكرتيرة لوست لهُ ما أملاهُ اياها.. تُعجبهُ الجملة كثيراً ويذهلُ بها ويقررُ أن يُثبتها ليستخدمها في كتابهِ كرمزٍ لطاقةٍ غير محدودة.. طاقةٌ مُتفجرة يأملُ يوماً العثورَ على كنزٍ ثمين قد تكونُ هذهِ الجملة مفتاحها الوحيد.. وبرغم سلاحها الفتّاك الذي قد يسقط الناسُ من دونهِ في بحرِ الرتابة والملل.. وحتى مع اعتمادهِ على شياطينهِ: بليال.. الذي يُدنّسُ كلَّ شيءٍ ويُحيلهُ إلى عَفن.. وعشتروت.. القارضُ الساحق والمُفتت للقلوبِ والأجساد.. وجونجون..المُتسلط الذي يوسوسُ ويسحرُ ويُضرمُ ويحتضن.. رغم كل هذهِ الامكانيات الشيطانية الهائلة فإنّ مفيستو يفشلُ في شهوتهِ المجنونة تلك كشأنهِ دائماً.. لتبدوَ المسرحيةُ كعملٍ ناقصٍ ومضطرب “كما أشرنا لذلك سابقا”.. لكن تبقى لفكرةِ الشهوة المجنونة قوة هائلة ارتكزتْ المسرحيةُ على سرِّ الانفجارية المُغيبة التي تختزنها وتوحي بها.. وعلى العذوبة الشعرية التي غلّفتها.. إلى الحدِّ الذي جعلَ الأحداثَ الباقية تطوفُ حولَ فلكها.
بوسعنا القول إنّ فاليري حاولَ التعاطي مع قصة فاوست بمنظورٍ مغايرٍ تماماً عمّن سبقوهُ.. باستثمار رؤيةٍ أكثر واقعية لفاعليةِ المعرفةِ الانسانيةِ المتراكمة في العلم والأدب.. مع غيابٍ واضح لذلك التوق الحار إلى المجهول.. وإلى ولوجِ المعرفة المُغيبة في العوالمِ العلويةِ والسُفلية التي حفلتْ بها مُعالجات غيره.. مما دفعَ بالمسرحيةِ بعيداً عن عناصر قوتها فغابتْ مُتعتها المُفترضة.. وثمة منظورٌ مُغايرٌ آخر.. يتمثلُ في تآكلِ جُرفِ المسافات بين فاوست ومفيستو.. ابتداءً على مستوى الخصائص والمميزات.. ذلك أن انزياحاً ما قد تمَّ حتى قبل إبرام العقد بينهما تراجعتْ بموجبهِ خصائصُ فاوست ومميزاتهُ البشرية بضعة خطواتٍ نحو خصائصِ ومميزات فاوست بكل بلاهتها ونقصها وضعفها.. وكأننا منذ البداية إزاء شيطانٍ بشري “مفيستو” وبشر شيطانيّ “فاوست”! وهو فهمٌ متفرّدٌ حقاً.. لكننا نقرأُ بهذا التحالف الغريب أن الأثنين رسما لوحةً مُشابهة لفكرةِ الشيطانِ نفسهِ بغرورهِ وجحودهِ وعصيانه.. توحي قسراً لتلك المعصية الأزلية الأولى لكلِّ منهما: للشيطانِ ومعصيتهِ الأولى الملتصقة بوسوسةِ وإغواءِ أول انسان وخروجهما معاً من الجنة.. وللإنسانِ ايضاً ومعصيته الأولى الملتصقة بنسيانهِ العهدَ الالهي وأكلهِ من الشجرةِ المُحرّمة.