هذه الاشكالية واحدة من أهم الاشكاليات في بلدنا والعالم العربي والعالم عموماً. والمفارقة أن أصل الديمقراطية كما هو معروف، ولو من حيث معنى الكلمة، هو «حكم الشعب»، فكيف يمكن لحكم يختاره الشعب بنفسه أن يفتقر الى العدالة الاجتماعية التي هي مطلب رئيسي لكل الشعوب؟
تجربتنا العراقية بحد ذاتها يمكن أن تجيب عن بعض جوانب هذا السؤال. فرغم أن الانتخابات جرت اكثر من مرة – وإنْ بدرجات شفافية متباينة – فإن القوى السياسية المتنفذة التي يفترض بها تمثيل عموم الشعب الذي جاء بها، أصبحت منفصلة عمليا عن القاعدة العريضة من عموم الناس، وباتت المنافسة محصورة بينها على حساب الغاية الأساسية التي كان يفترض بها التعبير عنها.
في كتابه (الثقافة في عصر العوالم الثلاثة) يقول مايكل دينينغ عن هذا الموضوع: «أسقط الديمقراطيون في أيامنا هذه المساواة في الشروط من تعاريفهم. وقد كان الانجاز النظري لـ (شومبيتر) هو أنه، ببساطة، أعاد تعريف الديمقراطية باعتبارها سوقاً حرة للأصوات. فالديمقراطية ليست هي الدول التي يحكم فيها الشعب، ولا هي التي توجد بها مساواة في الشروط، ولكنها، ببساطة، الدول التي تتنافس فيها النخب على الأصوات في سوق الانتخابات. وليس هناك ما يدعو الى الدهشة في أن تصبح الديمقراطية والرأسمالية مترادفتين تقريباً، ويبدو أن الراسمالية الديمقراطية محل إجماع كوني».
وهذا التشخيص الدقيق يخص جوانب كثيرة في مجتمعنا العراقي ومجتمعاتنا العربية مثلما يخص العالم عموما، رغم الاختلافات الكبيرة في الظروف والسياقات وطبيعة المجتمعات. ففي بلدان العالم الرأسمالي الأكثر تقدماً، العدالة الاجتماعية غائبة أيضاً، وأفراد قلائل يملكون أكثر مما يملكه بقية الشعب. ولكن لأن المستوى المعيشي والاقتصادي متقدم في تلك البلدان نسبة الى بقية أنحاء العالم، فإن الحد الأدنى لمتطلبات المعيشة متوفر بشكل ملائم لعموم الناس، رغم أنه كان يمكن أن يكون أعلى بكثير لو كانت العدالة الاجتماعية في النظام الاقتصادي أكثر حضوراً.
ولكن في البلدان الأقل نمواً واكثر اضطراباً سياسياً واجتماعياً مثل بلدان العالم الثالث بوجه عام، فإن غياب العدالة الاجتماعية يجعل شرائح واسعة من المجتمع تعاني من الفقر المطلق، أي العجز عن تلبية الحاجات الأساسية المعيشية.
وفي بلد غني بثرواته نسبة الى عدد سكانه مثل بلدنا، فان حالة الفقر المطلق لا بد أن تثير سخطاً كبيراً. فنحن لا نتحدث عن بلد ليس لديه من الثروات ما يكفي سكانه، بل عن بلد تتعدد مصادر الثروة فيه بوفرة مقارنة بعدد سكانه. لكن عوامل الفساد وغياب الشفافية وتراجع قوة القانون توفر للقوى السياسية المتنفذة فرصا كبيرة للاثراء غير المشروع مع غياب الرقابة والمحاسبة.
ولكن ما هي العوامل التي تفصل الديمقراطية عن العدالة الاجتماعية أصلا؟ أي: كيف يمكن للاختيار الشعبي للحكم أن يأتي بحكم لا يمثل تطلعا اساسيا للمجتمع؟
هذا ما يعود لعدة أسباب وعوامل، بعضها مشترك بين المجتمعات والبلدان المختلفة، وبعضها يختلف بين المجتمعات، وبين الفترات والمراحل المختلفة داخل المجتمع الواحد نفسه.
ففي بلدان العالم الرأسمالي المتقدمة، على سبيل المثال، فإن الماكنة الايديولوجية الضخمة لصناعة الراي والوعي العام، وحالة الرخاء الاقتصادي العامة مقارنة ببقية انحاء العالم، تجعل من السيطرة الايديولوجية للراسمالية على مجتمعاتها نافذة ومتغلغلة. رغم أن بعض مظاهر السخط لا تلبث أن تظهر للسطح متى ما اختل توازن هذه العناصر، أو وصلت مظاهر الأزمة المعيشية والفقر النسبي الى نقاط شديدة التوتر، كما هو الحال في احتجاجات السترات الصفراء في فرنسا على سبيل المثال.
بينما في بلدنا – والعديد من البلدان العربية - نلاحظ أيضا التأثير الكبير للمؤثرات المترسبة من مخلفات الماضي، مثل الانتماءات القبلية والمناطقية والدينية والطائفية والعرقية، وهي تلعب دوراً مهماً في تحديد مخرجات العمليات الانتخابية. مع هذا، يظل السخط قائماً ومتنامياً ما دامت هناك فجوة كبيرة في العدالة الاجتماعية، لا سيما في البلدان التي تمتلك من الثروات ما يتيح لشعوبها العيش بكرامة، حيث يعيد هذا السخط العام انتاج نفسه مرة بعد أخرى، وبلدنا مثال حي على هذه الحال.