من وليم فوكنر الى طه حامد الشبيب

ثقافة 2020/01/13
...

 سعيد الروضان
 
يتخذ هذا المبحث تأكيداً لأسبقية الصورة الشعرية ابتداءً وهيمنتها على التعامل مع النتاج الشعري، لاسيما بوجود الترابط العضوي بين القصيدة والصورة الشعرية. "وشكلت الصور الشعرية ذات الانفعال الحي. وهو أمر يرتبط بمعمارية القصيدة السيابيّة (أو أية قصيدة أخرى. الباحث)، وبنسيجها الداخلي وعلاقتها بالحركة الشعرية الجديدة".(1)
لقد سادت روحية الشعر على العالم القديم لارتباطها بالعبادات وبأغاني الصيد والعمل الجماعي لتخلق لنا شعراً انسانيا مجهول المؤلف في أغلب الأحيان. "ويمكن القول في شيء من المبالغة، إنّ تاريخ البلاغة الإنسانية هو تاريخ التصوير الشعري، وذلك  أنّ أقسام البلاغة النثرية وتفرّعاتها ما كانت لتستقيم وتتحد إلا في ضوء بلاغة الشعر التي اختزلت بدورها قيم ما يعرف بـ "الصورة الشعرية"، والى وقت قريب كان من الصعوبة بمكان الحديث عن تصوير أدبي خارج الصورة الشعرية وربيبتها "الاستعارة" التي وصفت مرة بأنها ملكة المجاز."(2 (
    يقول آرثر ميزنر "لقد كان فوكنر، كما كان ديكنز في القرن التاسع عشر، من هؤلاء الكتاب القلائل الذين كانوا أكثر من مجرد روائيين ."(3) ويرى د.نجم عبد الله كاظم "ومع ان وليم فوكنر (1897-1962 . الباحث) كاتب معروف جداً، بل ومقروء من قبل الأدباء العرب، الا انه من الكتاب العالميين الذين لم يتعرّف عليهم العرب بشكل مبكر بما فيه الكفاية لجعله مشهوراً ومقروءًا، مثل كتاب آخرين، في فترة مبكرة، فليس هناك أدلة تشير الى أنّ هذا الكاتب الأميركي كان معروفاً في الوطن العربي قبل الخمسينات، فيما عدا قلة من اولئك المثقفين والأدباء."(4) ويشاطرني الرأي الكثير ممن قرأوا روايات فوكنر بصعوبة قراءتها وذلك لاستخدامه وسائل غير معروفة مثل الكتابة بالحروف المائلة للتعبير عن التحولات من مشهد الى آخر والتعبير بلغة غير مألوفة، "ولكن فوكنر نفسه أُتهم يوم كتب روايته بأنه نقل حيلاً اسلوبيّة عن جيمس جويس وفرجينيا وولف".(5) وبتقديري فإن العزوف عن قراءة ليس فوكنر فحسب بل معاصريه أمثال جيمس جويس وفرجينيا وولف لا تخص القرّاء العرب فحسب بل إنّها مشكلة كونية تتفاقم هذه الأيام مع تزايد سطوة الأنترنت وظهور الكتابات السريعة كالقصة القصيرة جدا على سبيل المثال لا الحصر .
    في مقابلة صحفية أجريت عام 1956 وباللغة الانجليزية مع الروائي الكبير وليم فوكنر مؤلف رواية الصخب والعنف، ونور في آب، وكم هائل من الأعمال الروائية التي قادته للفوز بجائزة نوبل عام 1949 تحدث عن استخدامه الصور الفكرية mental pictures وكذلك استخدام الصور الذهنية images التي تنتج بواسطة الكلمات التي تظهر في الصمت.(6)  وقد أكد ذلك الناقد والمترجم الكبير جبرا ابراهيم جبرا في مقدمته الرصينة لترجمة رواية فوكنر الصخب والعنف "تعتمد الثانية" يقصد بذلك رواية الصخب والعنف "استخراج ما في النفس من تجمعات الحوادث والخواطر لا سرداً بل دفقاً، عن طريق المونولوج الداخلي، والمونولوج يعتمد على التداعي، والرموز المتواترة والصور المترددة(7)، غير أنّ المترجم المجيد عطا عبد الوهاب اكتفى بلغة الشعر في اعمال فوكنر كونه بدأ شاعراً وأصدر ديوانه الأول عام 1924 الذي كان تحت عنوان "الظبي المرمري" ولم يعرّج على استخدامه الصورة النثرية مثل ما فعل زميله جبرا ابراهيم جبرا لكنه ذكرها ضمنا في مفردة "يصبغ" (8) سطوره وهي تعبر عن التصوير بالألوان وتحسب له خطوة متقدمة. "على أنّ لغة الشعر لازمت الكاتب منذ ذلك الحين فهي تنبث في ثنايا رواياته بما يشبه التداعي غير الواعي لدفق من الشاعرية الغريزية يصبغ سطوره إذا وصف أو حلل أو انسرح الى تأملات".(9) ولم يذكر د.نجم عبد الله كاظم في كتابه الذي أشرنا اليه بل اكتفى "من خلال اغنائها بمشاهد العنف والثورة والجنس والصراعات الداخلية". (10)، هل ان المقصود بالمشاهد هو الصور؟ بالتأكيد نعم، وذلك لغياب مصطلح الصورة في الرواية رغم تأليف اولمان كتابه (الذي سوف نتحدث عنه بالتفصيل) في وقت مبكر، في بداية الخمسينات، وقد راجعنا الكثير من الدراسات فلم نجد بين مصادرها ما يشير الى اسم ستيفن اولمان وكتابه الريادي.
 
 تطور الصورة عند فوكنر 
روايات المرحلة الناضجة، "نور في آب" أنموذجاً
"ظهرت رواية "نور في آب" عام 1932 وفوكنر في الخامسة والثلاثين، بعد عدد آخر من رواياته المهمة، وهي رواية تقترب أكثر من سابقاتها من واحدة من ثيمات الكتاب الرئيسية، الا وهي إن سقوط الرجل الأبيض ينبع من عجزه عن مساعدة الزنجي في معاملة الإنسان للإنسان، كان ظهور هذه الرواية في مرحلة من تدفق العبقرية تدفقت كالسيل، يقول عنها الناقد ريتشارد روفير Richard H.Rover "انها تفجر في الطاقة الخلاقة لعلها ستعتبر ذات يوم مرحلة لا مثيل لها في الخصوبة مرّ بها أي كاتب أميركي آخر "(11)
الصورة تعمق الثيمة باعتماد اللون، الحركة والموسيقى
• العنوان في رواية "نور في آب" يمثل ومضة أي صورة خاطفة تمنح القارئ صورة للتناقض التكاملي بين النور، الضوء، الدفق وسخونة شهر آب اللافحة، ويرمز الروائي بولادة رضيع لينا كروف، أحد الأبطال الأساسيين في الرواية في هذا الجو المجدب الخالي من الرحمة، ليطلع إلينا في صور مزدوجة وملموسة في الصفحة ما قبل الأخيرة من الرواية، وربما كانت انجازات فرويد ويونغ ماثلة بوجود الرجل في القطار. 
ومن المفارقة أن يقيس الروائي المدة الزمنية لرضاعة الطفل بالأميال وليست بالدقائق ومضاعفاتها مما يضفي حالة من الغموض المبدع وحيوية الضوء المنبعث المرتبط بحركة اعمدة التلفون والسياجات وهي تنطلق في حركة بهلوانية مثل السيرك "كانت تجلس في الشاحنة، في الخلف والرجل الى جانبها الآن، والطفل لا يتوقف عن الرضاعة أبداً، وكان يرضع لنحو عشرة أميال، كأنّه يأكل في عربة الطعام في قطار، وهي تنظر الى الخارج وتراقب أعمدة التلفون والسياجات تمر امامها كأنّها عرض في
 سيرك".(12)
 
هوامش
(1)  الأسطورة في شعر السياب/ البروفسور عبد الرضا علي ص7  (2) الصورة في الرواية الفرنسية الحديثة/ ستيفن اولمان / مقدمة محمد أنقار ص8، (3) الرواية في العراق  1965-1980 وتأثير الرواية الأميركية فيها/ د. نجم عبد الله كاظم ص195، (4) المصدر نفسه ص195، (5) المصدر نفسه ص 212، (6) مقالة منشورة في كتاب باللغة الانكليزية عام 1956 بعنوان Writers at Work / by Kay Dick /Penguin Books/ page 28   (7) جبرا ابراهيم جبرا / مقدمة لترجمة رواية الصخب والعنف ص 8 . (8) عطا عبد الوهاب / مقدمة لترجمة رواية  نور في آب0ص12 , (9) المصدر نفسه ص12 , (10) الرواية في العراق 1965-1980 ص 201 ,(11) نور في آب / ترجمة عطا عبد
الوهاب ص 16, (12) المصدر نفسه ص 572,كذلك فعل مجايله ت. س. اليوت1988-1965ـ عندما كتب قصيدته""The Love Song of J.Prufrock"   التي صدرت عام 1917عندما قاس سنوات عمره المتبقية بعدد ملاعق القهوة
"I have measured.