التحولات النسقية في الشعر العربي

ثقافة 2020/01/15
...

د. كريم شغيدل
 
إنَّ الشعر العربي عموماً بقي وليد سياقات جمالية متوارثة، تراكمت عبر مئات السنين لتشكّل الظاهرة التي مثّلت مركز الثقافة العربية.
وقد تمحورت تلك السياقات حول ما سمي بـ (عمود الشعر) وإذا كانت البيئة الصحراوية قد حفرت آثاراً في مكونات البناء، فإنَّ النزعة الشفاهية وليدة تلك البيئة قد طبعت عموم التجربة لتكون مسؤولة عن إنتاج السياقات الصوتية والتركيبية وسياقات الصورة والمضمون والغرض، أمّا الأنساق الأخلاقية أو الثقافية التي شكلت أيديولوجيا
الشعر العربي،
فمن المؤكد إنها خلاصة أخلاقيات البداوة وقيمها السائدة، وقد ورثت الثقافة العربية تلك السياقات والأنساق، بعد رسوخها فتحولها إلى مرجعية ثقافية لهوية الإنسان العربي، على الرغم من تعاقب الأطوار الحضارية، فكان من الصعب زعزعة ذلك البناء الراسخ، لا سيما بعد أن اكتسبت اللغة العربية أعلى درجات القدسية، من حيث هي لغة القرآن المجيد، وقد عُدَّ الشعر مصدراً من مصادر ضبط معاييرها النحوية والصرفية وعلومها البلاغية، إلى درجة أنه شكّل المنبع الثالث لعلوم الدين بعد منبعي التشريع(القرآن والسنة النبوية) الأمر الذي أسهم في ترسيخه واكتسابه قدراً 
من القداسة.
إنَّ عوامل الرسوخ لم تنجِ الشعر العربي من تأثير التحولات الحضارية، فإنْ كان الإسلام في بداية الدعوة أعطى للشعر بعداً سياسياً خلافاً لأبعاده البيئية والذاتية والقبلية، فإنه سرعان ما استعاد وجوده الأصلي مع بدايات الدولة الأموية، وكانت النزعة القبلية على الرغم من اتخاذها أشكالاً سياسية وعقائدية مختلفة.
 قد شكّلت السياق الثقافي الملائم لاستعادة مركزية الشعر بسياقاته وأنساقه المعهودة، ومع اتساع مساحة التحوّل الحضاري في عهد الدولة العباسية، وبتعدد روافد الثقافة عن طريق الترجمة والاتصال بالثقافات الأخرى،  أصبحت الفرصة متاحة للتجديد وخرق
عوامل الرسوخ.
لقد ظهرت بوادر المغايرة مع ما سمي بالشعراء المحدثين وشيوع أنماط شعرية خارجة على النمط مثل (الكان كان، المواليا، والقوما، والدوبيت والزجل والسلسلة والموشح ) أو ما سمي بالفنون السبعة التي عُدَّت فاتحة للشعر الشعبي وليس للشعر الحديث، ويمكننا إضافة (القواديسي والمشجرات) وكذلك البند العراقي الذي عُدَّ جذراً لقصيدة (الشعر الحر) وتجدر الإشارة إلى أنَّ لهذه الأنماط الشعرية مرجعيات ثقافية شكّلت سياقاتها،
فقد كان نسق المواليا رثائياً يضمر بعداً سياسياً بعد نكبة البرامكة.
وقد تشكّل الموشح غزلياً/ غنائياً يعكس بيئة الترف الأندلسي في حين اتخذ القواديسي شكل قواديس الساقية ليعكس نسق الانتقال من البادية إلى الريف، وكانت لكلٍّ من المشجرات والبند مرجعيات اجتماعية عكست انحسار الرؤية الثقافية وتلاشي الرؤية المعرفية إبّان ما سمي
بالحقبة المظلمة.
نريد القول إنَّ الشعر العربي امتلك وجوده من رسوخ السياقات والأنساق وصرامة المعايير الأخلاقية والسياسية والثقافية المتعلقة بالتراث والأصالة وشخصية الأمة ومدعمة بمعايير فنية ذات أيديولوجيا دفاعية حامية للأنساق اكتسبت شرعية الوصاية على الذائقة الشعرية، ومع ذلك شهدت حركته عبر التاريخ محاولات كانت بمثابة منشطات لبقائه، وما هي إلا ثغرات لم تنفذ من جدار النسق الصارم، فباستثناء (الموشح) بقيت الأنماط الأخرى خارج مدى المنظور الرسمي للشعر، وما يزال النمط الطرازي للقصيدة العمودية هو الأنموذج المثالي للذائقة السائدة والأطروحات النقدية، أمّا الأشكال الأخرى فقد عوملت مجرد شواهد
 تاريخيَّة.
لقد شهد تاريخ الشعر مواقف رافضة لأنساق الثبات والتكرار والتقليد،  وصلتنا عبر الشعر، ولم تكن مجرد أبيات عكست مواقف آنية، بل هي في تقديرنا بمثابة الجمل الثقافية الدالة على توفّر بذور الثورة على الأنساق الثابتة، ومنها قول (زهير بن أبي سلمى):
 
ما أرانا نقول إلا معاراً 
               أو معاداً من لفظنا مكرورا
وإذا كان قول زهير يستهدف عموم الظاهرة فإنَّ (أبا نواس) سخر من ظاهرة الوقوف على الأطلال بعد انتفاء الحاجة التعبيرية لها في مجتمع الحضر وذلك بقوله:
 
قل لمن يبكي على رسم درس
واقفاً ما ضرَّ لو كان جلس
أو بقوله: 
 
عاج الشقي عن رسم يسائله
وعجت أسأل عن خمارة البلد
والبيت الأخير يعكس حالة التمرد على قيم البداوة وذلك من خلال المقارنة بين المكانين (الطلل والحانة) وفي العصر الحديث شهدت الحركة الشعرية مواقف عديدة باتجاه المغايرة والتجديد والنهوض بواقع الشعر العربي بعد حقبة التردي،  فظهرت الحركات والجماعات كحركة الإحياء وجماعة الديوان وجماعة أبولو ورابطة القلم، وتوالت دعوات الشعراء كدعوة الزهاوي للشعر المرسل، ودعوة أمين الريحاني ثمَّ روفائيل بطي والرصافي للشعر
المنثور.
نستنتج من ذلك أنَّ حركة الشعر العربي لم تكن ساكنة، وكان هناك شعور دائم بضرورات التجديد والمغايرة والخروج على النسق، لكن السياقات الثقافية لم تكن لتسمح بخروج حاد، لذلك كانت المحافظة على الأنساق المتوارثة شرطا لأي تجديد، حتى قيض للشعر الحر ثم قصيدة النثر وأنماط الكتابة الشعرية الأخرى كالنص المفتوح وقصيدة الومضة أنْ تجد السياق الثقافي الملائم 
للتحولات النسقيَّة.