د. جواد الزيدي
تصطفي الفنانة التونسية آمال الحجار رمزية المرآة في مجمل خطابها البصري، وتتخذه منهجاً تُجري عليه تعديلات مستمرة من حيث الأسلوب والاتجاه الذي تعتقد أنه الأصلح في التعبير عن الموضوع، وتقرن هذه الرمزية طوال ذلك الاشتغال بالوردة وتبدلاتها عبر الفصول والمناخات التي تحيا بها من خلال تماهي أحدهما بالآخر وانصهارهما داخل نسيج يشكل الفضاء السرمدي أو ذلك السديم الهلامي الذي تتحول عنده الأشياء من حالة الى أخرى.
فهي اختارت أولاً منهجاً تعبيرياً يكمن في جوهر التصورات والرؤية أو منظومة اللون في ضوء مقاربات لونيَّة تنتمي الى ذلك الفضاء الذي يمكن الارتكان إليه،
وهي ألوان الطيف الشمسي التي يتدفق منها الأحمر والأزرق المتدرجان الى مساحات لونية تلتقي في أعالي كل لوحة، وكأنَّ هذا الفيض الفيزيائي حينما يتجاوز حالته المادية يتحول الى بعد ما ورائي،
وأنَّ إمكانية الفنانة وقدرتها على التخيل أو الفهم لعناصر الطبيعة تستطيع تحويل المرئي الى بعده الآخر،
فتأتي بجسد المرأة الموشح بأردية طويلة تلتف في ذلك السديم لتتحول عندها الى وردة أو مجموعة أزهار تحتفظ بألوان الطيف
ذاته، وتمسك بالمتلقي في مراحل التحول نفسه. بمعنى أنه يشاهد الصورة الأولى التي تتغرب ملامحها وهي تلتف من وسط السديم اللوني لتظهر في الجانب الآخر
بمقامات الوردة.
وبهذا تكرس سعيها الكبير الى منح اللوحة طاقة حركيَّة فعليَّة في ضوء المتغيرات الاسلوبيَّة التي تفضي الى إضافات جماليَّة يزيد رصيدها في تجسيد الموضوع الذي
اجترحته من قبل، لتؤكد أنَّ نساءها ليست نساء الأرض أو الواقع الفعلي والمعيش، بل هي صورة المرأة التي تحيا في الأعالي تماشياً مع ما تخلده الاسطورة أو الميثولوجيا التي تحتفظ بعدد كبير من النصوص التي تفسرها على هيئة صورة مرئية عيانية بعد أنْ بقيت طويلاً صورة ذهنية تمكث في أعماق العقول والذاكرة الجمعيَّة التي تستند طويلا الى التراكمات التاريخية والجمالية واستثمار البعد الدلالي للون ذاته في تلك المرويات
النصية.
فالأحمر المتدرج الى البياض ومثله الأزرق يشكل علامة فارقة في لوحات (الحجار) وهو جزء من الصراع بين مستويات الأمكنة وفاعليتها في الموروث الديني
والاجتماعي التداولي التي تكرسها تلك النصوص، الأحمر المرتبط بالسفلي والقاع، والأزرق المتدرج الرامز الى العلوي حتى يصل الى المقدس بوصفه لون الطهارة الالهي والنقاء
الروحي، وبهذا نجد أن المزاوجة بين اللونين في اللوحة الواحدة
جزءا من هذا العروج الى مناطق قصية تتجلى من خلال الادراك العقلي بخلاف فرضيات الواقع المعيش،
ولهذا فإنَّ الفنانة تنزع دوما الى اخفاء الشكل المكرس في الذاكرة والظهور بشكل آخر في لحظة كسر آفاق التوقع،
وهي مقاربة بين المرئي واللامرئي في ضوء تحولات الثابت في الحقيقة الواقعية
وفي الوعي أيضا لإيمانها بأنَّ الحقيقة غائبة ويجب البحث عنها في مناطق الوعي القصية من خلال الدال الهائم في اللون والشكل وما يحيط بهما بشكل قصدي واعٍ في ضوء المسميات العلامية التي تصل بنا الى جوهر المعنى في
العمل الفني.
ولكنها لا تكتفي بجسد المرأة ممثلا لموضوعها الأثير وسبيلا لتشييد سطحها التصويري، بل تشكل العلاقة بين ذاتين من الجنس ذاته أو من الآخر المكمل
هاجسا لديها.
فالذات والآخر هي من تؤسس عليه رؤيتها الفكرية ليس ببعيد عن منطق التفكير الذي تحكمه اللحظة الزمكانية التي تعيشها الفنانة وأثرها على الفعل الانجازي للذات المبدعة، التي نراها تشكل تناغما منسجما بعيدا عن التضادات التي تؤسس طبيعة العلاقة بين الذات والآخر (الرجل والمرأة) في
أمكنة أخرى.
وفي هذا تكريس لصورة مثالية تجسدت بشكل عياني على مستوى التناولات المضمونية أو التقنية بما
تفرضه سلطة المعنى الكامن داخل الشكل الفني في ضوء آلية التلقي
متعددة المستويات انطلاقاً من قيم جمالية تداولية على صعيد الرمز المشكلة عبر
الجسد واللون.