سؤال الكتابة والمعرفة

ثقافة 2020/01/15
...

محمّد صابر عبيد
سؤال الكتابة والمعرفة هو سؤال في غاية الأهمية والخطورة والضرورة لما يمتلكه من قوة وحضور في الفكر والثقافة والتقدّم والتمدّن والحضارة، تتحدد قيمة الكتابة في علاقتها بالمعرفة على أساس أنّ آليّات الكتابة هي واحدة من أهم السبل والوسائل لإنتاج القيم والأفكار المعرفية المتنوعة وربما يكون ما جدوى الكتابة على وفق هذا الوصيف المعرفي لها يمثّل جوهر فكرة السؤال؟ هل يمكن أنْ يوجد سؤال أكثر تاريخية وثقافية وأهمية وحساسية وحضوراً وضرورة من هذا السؤال؟ 
سؤال يبحث في جذر المعرفة وقيمتها وحيويتها منذ أن تشكّلت بوصفها همّاً وجودياً يشغل فكر الإنسان بمختلف مستوياته، إذ هو من أكثر الهموم البشرية وجوديةً وديمومةً وتطوراً، فما هو مصير هذه الكتابة بإزاء هذه المعادلة الكبيرة؟
لو تصفّحنا الموروث المعرفي البشري عموماً وحاولنا صياغة مشروعات للإجابة عن الإشكالية المتولّدة من مداخلات هذا السؤال الكبير، لأدركنا تماماً الخطورة التي تنطوي عليها عملية الكتابة إذا ما استهدفت في الأساس أن تنهج نهجاً معرفياً، أو إذا ما حلمت بأن تكون في هذا السياق نوعاً من أنواع المعرفة التي تعمل على تفسير الرؤية البشرية داخل منظور الحضارة. من هذا المفترق ينمو في دواخلنا نوع من الرثاء لهذا التراكم الكتابي الهائل الذي يقع على هامش المعرفة من غير أن يمسّ جوهرها، ولا يمتلك أدنى المقومات التي تؤهله للدخول فيها ليقع خارج الزمن والتاريخ المعرفي والحضاري وحتى الأخلاقي.
قد يقاس الكتّاب في الكثير من الأحيان بحجم المكتوب والمنشور حتى وإن افتقر إلى أبسط الأسس العلمية والمعرفية والمهنية المعروفة، من دون النظر إلى قيمة هذه المؤلفات وقيمة مؤلفيها وقيمة الموضوعات والحقول التي اشتغلت
عليها.
تتلخّص مشكلة هذه الكتابات السائبة عادةً في أمرين اثنين، الأول قيمة مؤلفي هذه الكتب والبحوث والدراسات ومستوى موهبتهم، ومستوى ثقافة هؤلاء المؤلفين ومعرفتهم واطلاعهم ومنهجيتهم، وهي في هذه الحالة المجانية غالباً ما تكون سائدة ومألوفة ومباشرة وقريبة من التداول، لا يمكن أن تؤهّلهم لتنظيم المعرفة واحتوائها وهضمها ومن ثمّ إنتاجها، فهم بهذا المعنى أدوات لجمع المعلومات وخزنها فقط، إذ لا يمتلكون الوعي الخاص المثقف الذي يسهم في تنظيم المعرفة وتحويلها وإنضاجها والعمل على إعادة إنتاجها
أو إنتاجها.
 والأمر الثاني أنّ مثل هؤلاء ليس لديهم منهج خاص في التفكير والعمل والبحث والتحليل والتأويل والقراءة، فهم يستعيرون مناهجهم من الآخرين، ويدينون بالولاء المطلق لأصنام خلقها الوهم وسيّدتها الشائعات فقط، فالمنهج المنتج الخصب والفعّال هو المنهج الخاص الذي يتثقّف باستمرار بكلّ ما هو جديد ومعرفي وأصيل وجميل وحيوي وقادر على التغيير والتنوير، وله القدرة على خلق حداثته الخاصة ضمن إمكاناته لتحقيق نمو داخلي، واستيعابه لثورة المتغيرات الحاصلة في المحيط الاجتماعي والثقافي والحضاري والإنساني العام، وهو الكفيل بخلق فرص مثالية للإنتاج المعرفي، ومن دونه تصبح عملية الإنتاج شبه مستحيلة إن لم تكن
مستحيلة كلياً.
ما تزال إشكالية المنهج تعصف بجلّ الكتابات السائدة وتلقي بها خارج التاريخ النقدي والثقافي والمعرفي، لأنها لا تقدّم في المشهد الفكري والثقافي والمعرفي أية إضافة حقيقية بوسعها أن تكون شاهداً على عصر أو مرحلة أو قيمة باهرة، إنما هي في أفضل أحوالها هوامش للمنتج السابق ولا تمتلك بمقوماتها الهشّة هذه أن تضيف أبسط قدر ممكن للمتن المعرفي بمختلف صنوفه وأشكاله وتجلياته. فما جدوى مثل هذه الكتابات إذن؟ لقد صودر المشهد الثقافي بهذا النوع من الكتابات وانتُهكت معرفيته، وقد بدت لفرط النقص الثقافي والمعرفي الكبير في صفوف القراء تتسيّد هذا المشهد وتقوده باتجاه تكريس السالب والهامشي ومحاربة الأصيل والمنتج والخصب، إلى الدرجة التي يبدو فيها أيّ مقترح معرفي بإعادة إنتاج هذه المعادلة أمراً شاذاً وغريباً وغامضاً في منطلقاته وأسسه، بحيث تشكّلت في المشهد السلبي المهيمن دائرة فهمٍ ضيقةٍ لها تقاليدها وأسسها وضوابطها القائمة عُرفاً على الاستقبال والتبادل السريع الذي يحاكي مباشرة مخزون الذاكرة (الماضوي)، ولا يتقدّم خطوة واحدة إلى أمام باتجاه الحلم المستقبلي القائم على رؤية معرفية استباقية تعرف ما تريد الآن وغداً.
إنّ أيّ خروج -أو محاولة خروج- على هذا الوضع المكرّس - وهو ما تفرضه قوانين التطور والمعرفة- إنما يتّهم بخرق المألوف وتجاوز الحدود وافتعال الغموض والولاء للآخر المستورد، ويقع عادة في دائرة التخوين والتآمر بالمعنى السياسي والاجتماعي والأخلاقي وليس بالمعنى الحضاري والمعرفي، وإذا كان قسم من هذه الممارسة يقع خارج الفعالية المعرفية الأصيلة ويفتعل الغموض فعلاً ولا يندرج في منطقة الطليعية والتنوير، فإنّ القسم الآخر –المعوّل عليه- هو من يحمل لواء النهضة المعرفية وينبغي استقباله بإيمان ووعي واستيعاب كما يجب.
لم تعد نظريات القراءة والتلقي الحديثة تنظر إلى المتلقي على هذا النحو بوصفه مستهلكاً ثابتاً يتسلّم موجات قادمة فقط بحياد واستكانة وإيمان مطلق، بل بوصفه مشاركاً فاعلاً في تحقيق حياة المقروء واستمراريته وديمومته وتطوّر إمكاناته في تحقيق معادلة موجبة بين منصّة البثّ ومساحة التلقي، تتضمّن طرح أسئلة دائمة وخصبة باتجاه القارئ، ومحاكمة قدرته على الفهم والإضافة والإنجاز. مما يعني أن الكتابة السائدة ذات الطبيعة السلبية غير المنتِجة بدأت تخسر قراءها السلبيين التقليديين في هذا العصر، وسوف يسقط في المستقبل القريب السؤال التقليدي عن حجم المكتوب وحجم الكتابة، ويصبح السؤال الجديد عن الإضافة التي تحققها وتضيفها في سياق نوع الكتابة وخصوصيتها
لا حجمها وكثرتها.
لا شكّ في أنّ الكتابة نشاط إنساني خلاق حين ترتقي إلى هذه الدرجة من الإسهام الفعّال في تربية الذوق الإنساني السليم، وتنوير العقل، ومضاعفة طاقة الأمل لدى الإنسان، وإبهاج الحساسية الإنسانية للقارىء الفرد والقارىء الجمعي في آن، وتوسيع طاقة المحبة والسلام والطمأنينة والتفاعل والتواصل لدى البشر، هذه هي الوظيفة الكبرى للكتابة حين تتحرّك في فضاء المعرفة وداخل مشروع كبير ينفتح على أفق إنساني
غير محدود.