هناك أرض للأحياء وأرض للأموات

ثقافة 2020/01/18
...

هدية حسين
 
 في ظهيرة يوم الجمعة، العشرين من يوليو 1714 إنهار أجمل جسر في بيرو، وألقى بخمسة مسافرين في الخليج، هذا الحادث جعل الأخ جوينبر وهو راهب متواضع يتساءل بعد أن شاهد انهيار الجسر: لماذا حصل هذا لهؤلاء الخمسة دون غيرهم؟  ويقول أثناء ما كان صدره يمور بالتساؤل “إما إننا نعيش صدفة أو إننا نعيش بقدر ونموت بقدر” الرواية تحمل عنوان جسر سان لويس راي، تأليف ثورتن وايلدر، وهي من خمسة فصول: ربما حادث، والعم بيو، والماركيزا دي مونتيمايور، وإيستبان، وربما أمر مقصود، من إصدار “عالم الأدب» بيروت.
 
إذا كان الحادث بتدبير من الله فلماذا يفعل ذلك لهؤلاء الخمسة تحديداً؟ وكيف يمكنه بعد الآن كراهب سعى دوماً للتنصير أن يملأ قلوب المتنصرين بالإيمان؟ الأهالي من جانبهم تأثروا بالحادث ولم يفعلوا شيئاً بوصفه قضاءً وقدراً من الله.. لكن الراهب لم يكتفِ بالتفرّج، بل راح يبحث بالأمر من جميع الجوانب، فقاده ذلك الى النبش في حياة الضحايا الخمس والخوض في القضايا الإلهيّة التي لطالما شغلته ليتوصل الى نتيجة تفضي به أن يدفع حياته ثمناً لها، أن يُتهم بالهرطقة والمساس بالذات الإلهيّة، ويُحرق مع نسخ كتابه عن الضحايا، لكن نسخة سريّة واحدة نجت من المحرقة وعبرت الأزمان، كانت موجودة في جامعة سان ماركو.
منذ الصفحات الأولى للرواية سنتساءل: هل هي رواية تبحث في الأقدار والغيبيات والمصائر؟ أم أنّ حادثة انهيار الجسر بضحاياه لا تعدو كونها حادثاً عرضياً مثل كثير من الحوادث التي تقع لسبب ما؟ هذا ما سنعرفه من رواية “جسر سان لويس راي” لثورتن وايلدر، ولكن قبل ذلك من هو ثورتن وايلدر؟
يعد ثورتن وايلدر من أبرز كتاب المسرح الأميركي وله 40 مسرحية، وهو روائي أيضاً وكاتب سيناريو أميركي، ولد في العام 1897 وتوفي في العام 1975، حصل على جائزة بوليتزر عن فئة الدراما، وجائزة السلام الألمانيّة لتجارة الكتب، ووسام الحرية الرئاسي، وبقي لسنوات طويلة مرشحاً لجائزة نوبل في الأدب.
شخصية الراهب جوينبر هي الشخصية الرئيسية، وهو الشاهد على ما حدث حينما كان قريباً من الجسر وهو ينهار ويهوي بضحاياه الى الأسفل، ومن ثمّ يدخل مع نفسه في التساؤلات ومتابعة حياة الضحايا من خلال شهادات من يعرفهم فيمضي في وضع كتابه، ولنبدأ بأولى الضحايا، الماركيزا دي مونتيمايور أو دونا ماريا، وهي امرأة لم تعرف أن ما كتبته من رسائل لابنتها سيصبح يوماً مادة تدرّس في المدارس الإسبانية، حاربت أعراف عصرها، تزوّجت وأنجبت ابنة تدعى كلارا ثمّ انفصلت عن زوجها، وعندما كبرت كلارا تمرّدت على أمها، وتزوّجت من رجل إسباني فأبحرت معه الى بلاده، فصُدمت دونا ماريا وأهملت هندامها وانغلقت على نفسها وأصبحت أقرب للعته، وهذا ما جعلها تعيش الوحدة والضياع فتبدأ بكتابة الرسائل الى كلارا التي لا تعبأ بها، وما إن أصبحت كلارا أماً حتى بدأت ترد على رسائل أمها.. تفاصيل كثيرة سنمرّ بها عن هذه العلاقة الشائكة قبل أن تقرر الماركيزا الابحار الى إسبانيا، وأثناء ما كانت تعبر جسر سان لويس راي سقطت في اللحظة التي إنهار بها الجسر.
أما فصل “استبان” فيبدأ من العثور على توأم في سلة اللقطاء التابعة لأحد الأديرة، تُرك معهما اسم كل واحد منهما، استبان ومانويل، لكن لم يُعرف لهما أب أو أم، فاعتنت بهما كبيرة الراهبات وأحبتهما كثيراً حتى كبرا بين يديها، ووجدا مصدر عيش لهما بالعمل عن طريق طباعة المسرحيات والأغاني الشعبية والإعلانات، وفي المسرح يحب مانويل الممثلة كلارا ابنة الماركيزا (قبل أن تتزوّج من الرجل الإسباني) لكنّها تستخدمه فقط لكتابة رسائل الى الرجل الذي تحبّه مما يحدث شرخاً في علاقة الأخوين، لكنّه لم يفرق بينهما إلّا ذلك المرض العارض الذي تعرّض له مانويل ومات بسببه، فهجر استبان المدينة ورحل، ركب سفينة وتعرّف على قبطانها، ثمّ حين وصلت السفينة قرب الجسر نزل القبطان الى تخليص البضاعة، فتحرّكت السفينة لتعبر الجسر، وفي هذه اللحظة حدث الانهيار وذهب استبان الى قاع البحر ومات.
ومن خلال تتبعنا لحياة الخمسة الذين راحوا ضحية في انهيار الجسر لم نجد سبباً لما حدث لهم، إنّ حياتهم لا علاقة لها بالقدر الذي قادهم الى الموت غرقاً، وذلك من خلال رصد الراهب الذي وضع كتابه عنهم، لا أحد منهم يستحق عقاب السماء ليموت هذه الميتة، لا الماركيزا ولا استبان ولا العم بيو الرجل الدؤوب وكاتب الأغاني الشعبية والمسرحيات ومكتشف المواهب، ولا غيرهم، وهذا ما حصل أيضاً قبل سنوات عندما اجتاح مرض الطاعون قرية الراهب فمات الكثير من الناس الفقراء الأكثر طيبة، فلماذا يموت الأكثر طيبة؟ إن هذا السؤال الذي تجدد بعد انهيار الجسر ولم يجد له إجابة قاد الراهب الى التوقف كثيراً بشأن الإيمان، ووجد فروقاً بين الإيمان والحقائق على الأرض، فأين هي عدالة السماء؟  
هذا ما بحث عنه الراهب جونيبر ووضع له كتاباً أفضى الى حرقه هو وعدد من نسخه.. ويُنهي ثورتن وايلدر روايته بأنّ الحب هو الذي يبقى في النهاية (قريباً سنموت، وكلّ ذكرى هؤلاء الخمسة ستغادر الأرض، ونحن بدورنا سنكون محبوبين لوهلة وسنُنسى، لكن الحب سيكون كافياً، وكلّ نبضات الحب تلك ترجع الى الحب الذي صنعها، حتى الذكرى ليست ضرورية للحب، هناك أرض للأحياء وأرض للأموات، والجسر هو الحب الناجي الوحيد والمعنى الوحيد). 
يقول الناقد جوناثان باردلي عن هذه الرواية: لقد ذهلت تماماً، ليس فقط بطريقة وايلدر في معالجة الفكرة الرئيسية التي طرحها ولكن بقوة وثراء أسلوبه النثري.