«نيكروفيليا».. صراخ القاع المهمل

ثقافة 2020/01/18
...

سلام مكي
الدخول الى المنطقة المحرّمة ثقافيا واجتماعيا، يستدعي امتلاك قدر من الجرأة والشجاعة الكافية، لمصادفة الضباب الفكري الذي يسعى لعرقلة ذلك المسير، وتأجيج الرهاب الكامن في الأعماق. ابتهال بليبل، قررت التوغل في تلك المنطقة وأعني الجسد وما يقوم به من وظائف حميدة وحقيرة، عبر استدعاء المخيلة والغوص الى القاع، محاولة في رفعها الى السطح، عبر فكّ القيود التي تجعلها أسيرة ذلك القاع المزمن. ولم تقف عن ذلك فقط، بل ذهبت إلى أبعد من الجسد، حيث وصلت الى المهمل منه، والمنفي من مخيلة الآخر المترصّد والمتتبع له، فكان لجزء الذي ينفر منه الآخر، نصيب من اشتغالاتها، وتنقيبها اجتماعيا ووظيفيا، بشكل مغاير للمألوف والراسخ في الذهن. ابتهال بليبل، سعت لاستثمار عملها الصحفي، فضلا عن قدرتها على الكتابة الأدبية، للمزج بين الاثنين، عبر إنشاء نص طويل، يتجاوز الأفق الكتابي، ويتعدى خطوط التقييد، لتحلق بكتاب، لا ينتمي لجنس، ولا يندرج تحت خانة ما، لكنه يؤسس لفكرة لا وجود لها سوى في مخيلة الكثيرين، كانت تحتاج لجرأة ابتهال لتخرج. الكتابة عن جسد المرأة ووظيفته وموقف الآخر منه، مطب ثقافي يقف عنده كثيرون، خوفا من المحذور والمحظور، إنّه أشبه بمجازفة كبيرة، يقدم عليها الكاتب، معلنا قبوله بالنتائج. فبين الاتهام بالابتذال والسعي لاستثمار هذا الميدان للصعود نحو الأعلى وبين الاتهام بالاباحية وكسر القيد الاجتماعي والقفز على السائد، المتمثل بالتستر على هذا الميدان، خوفا من المجهول. ابتهال كسرت كلّ هذا، وقررت الكتابة على نحو مختلف ومغاير، لتؤكد حقيقة، ينكرها الكل، ويتبرّأ منها الجميع. إنّها حقيقة الجسد وما يخبئ من شرر بين رماده. 
نيكروفيليا بشريط ملوّن. هو عنوان كتابها الجديد. عنوان، صادم وغريب، يستدعي مع لوحة الغلاف الوقوف عنده مليا. السيدة ويكيبيديا تعرف لنا النيكروفيليا بأنّها جماع الأموات.. الانجذاب الجنسي نحو الأموات.. وبهذا تقول ابتهال: إنّ ما تتناوله من شخوص وكيانات، هم مجرد أموات، وأن ثمة من يتربّص بهم. وهم الشريط الملوّن الذي يسعى ذلك الانجذاب الفاحش لجعله بلون واحد.. لوحة الغلاف وهي عبارة عن امرأة بلجام أبيض خفيف، يوحي لقمع المجتمع وجعله المرأة تنظر نحو اتجاه واحد وهو اتجاه الغريزة التي تحرك الأشياء جميعها. الكرسي ذو القوائم الثلاثة والرابعة قدم المرأة الواقف بطريقة مثيرة تشبه وقفة راقصات الباليه التي تكمل باقي أرجل الكرسي، تقول إنّ بقاء المجتمع واقفا مرهون ببقاء تلك القدم العارية التي لو رفعت لسقط الكرسي بمن فوقه. في هذا الكتاب، نجد ابتهال تسعى لكشف مجموعة حقائق عبر طرح جريء وبطريقة تمزج بين العمل الصحفي والثقافي، عبر اجراء لقاءات مع نساء معنّفات، مقموعات، جائعات، بائعات...، والتحدث نيابة عنهن، بطريقة لا تخلو من امكانية على توظيف الكلام العادي وتحويله الى كلام ذي قيمة. في السكوت والخضوع، تتجسد النيكروفيليا بكل تجلياتها، فالمرأة/الزوجة التي ترى أنّها مجرد كائن للترفيه عن الرجل، ولتلبية رغباته الجنسيّة، وإن الدين وفقا رؤيتها هو من يأمر بذلك، وإن من يقول غير هذا من منظمات حقوقية، هي السبب في إغواء المرأة وانحرافها عن الطريق القويم. هذه المرأة هي والأموات سواء، والرجل هنا لا ينجذب إلّا لميت! 
الأبط، ذلك المكان المقزز، الذي ينفر منه الجميع، حتى ذلك الجائع الرهيب، يذهب إلى أمكان أبعد ما تكون عنه، ابتهال هنا، منحته وظيفة أخرى، فهو ليس كما يراه الآخرون، فثمة مسحة جمالية خافية عن الآخرين، غائبة بفعل النظرة المتراكمة له والتي جعلت منه مكانا غير مرغوب فيه. النيكروفيليا، المرض الذي اتسع نطاقه، ليتحول من الموتى في المقابر، الى الموتى/الأحياء الذين لا يملكون إلّا الإذعان للمصاب بالمرض، فهم موتى لأنّ الممارسة معهم لا تختلف عن الممارسة مع الجثث كثيرا، والسبب هو الإرغام على هذا الفعل، طمعا في الحصول الى وجبة أو منام، أو غطاء للوقاية من الألم. ليس النازحة من تتعرض لمقايضة جسدها بشيء تأكله، بل الأرملة/ المطلقة/ المتزوجة حتى يقايضوهن في أماكن لا تخلو من القداسة، لقاء أجسادهن، وهنا لا بدّ لأحد الطرفين أن يكون ميتا، فالمرأة حين تستسلم تتحول الى ميتة، والرجل الذي يطلب هذا، هو ميت أصلا.. «نيكروفيليا بشريط ملون» هي صرخة أنثى مغيّبة، تحاول أن تجد من يسمعها، عبر الدخول في منطقة اللا مسموح. ويبقى السؤال هنا: من الميت في طرفي المعادلة؟