تشهدُ الدوائر السياسية والحكومية والشعبية في العراق نقاشاتٍ حادة بشأن التواجد الاجنبي في العراق وتحديدا التواجد العسكري الاميركي بعد عملية الاغتيال التي تعرض لها نائب القائد العام للحشد الشعبي ابو مهدي المهندس وضيفه قاسم سليماني قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الايراني في الثالث من كانون تاثانير الجاري. هذه النقاشات استمرت حتى بعد القرار الذي صوت عليه مجلس النواب بعد ان امتنع النواب السنة والكرد من المشاركة في جلسة التصويت، الامر الذي اشّر الى انقسام في داخل الصف الوطني بشأن هذا القرار، فمنهم من راى ضرورة مغادرة القوات الاميركية العراق وغلق جميع قواعدهم، لان تواجدها لا يخدم المصالح العراقية ولا يحترم السيادة العراقية وان اجندتهم واهدافهم لاتنسجم مع اهداف ومصالح العراق. بينما راى الاخر ان قرارا بهذا المستوى يجب ان يدرس بعناية قبل اتخاذ اي قرار يمكن ان يؤدي الى نتائج عكسية لا تصب بمصلحة العراق كما لا تصب بمصلحة مستقبل العراق.
وبعيدا عن صوابية هذا الرأي او ذاك، الا ان الادارة الاميركية التي تتحدث عن تكاليف باهظة في الاموال والافراد من جراء تواجدها في العراق تشعر بالضرورة عن اهداف تريد تحقيقها من خلال هذا التواجد، واذا كنا نجهل الاسباب الحقيقية التي تجعل الولايات المتحدة تصر على بقاء قواتها في العراق، الا ان مراكز البحوث والدراسات الاميركية تسرب في بعض الاحيان الاهداف التي تقف وراء الاصرار على بقاء القواعد الاميركية في العراق.
الاسبوع الماضي كتب "ديفيد بولوك" وهو "زميل برنشتاين" في معهد واشنطن لدراسات الشرق الادنى، ومدير "منتدى فكرة" التابع لذات المعهد، مقالة عنونها" ثمانية اسباب لماذا لا تزال الولايات المتحدة والعراق بحاجة الى بعضهما البعضط وادرج تلك الاسباب التي تعلقت باختصار:
اولا، انقاذ النصر على عصابات داعش الارهابية.
ثانيا، حرمان سليماني من النصر بعد وفاته لان البقاء في العراق "سيؤكد فشل ملحمة سليماني مما يؤدي الى تآكل مكانة ايران الدولية وتعزيز مكانة واشنطن في الوقت نفسه".
ثالثا، الحفاظ على عراق ودود وتحقيق توازن ايران، لان بقاء القوات الاميركية في العراق "سيسهم في التصدي للنفوذ الايراني المضر في جميع انحاء المنطقة".
رابعا، منع ايران من استغلال النفط العراقي.
خامسا، المساعدة في ضمان امن الاردن واستقراره.
سادسا، تمكين تقاسم الاعباء مع الحلفاء في الخليج.
سابعا، الحد من الانخراط الاسرائيلي بمعنى المحافظة على الامن الاسرائيلي.
ثامنا، الحصول على المزيد من الدعم من الحلفاء الاوربيين لمساعدة العراق.
ويبدو ان هذه الاسباب منطقية لاهداف التواجد العسكري الاميركي في العراق كما ذكرها بولوك، لكن المشكلة تكمن في حقيقة أهميتها للعراق من خلال هذه الاسباب؟ وهل ان مصلحة العراق وضعت في صلب هذه الاهداف؟ خصوصا ان خمسة من ثمانية اسباب ذكرها بولوك تخص دولة بذاتها في الاقليم دخل العراق معها بحرب دامت ثماني سنوات.
النظرة الاولية لهذه الاسباب لا تدل على ان العراق سيستفيد منها بقدر ما يراد له ان يكون "رأس حربة" يستفاد منه لمواجهة "النفوذ الايراني في المنطقة" وتحقيق اهداف اميركية اسرائيلية اقليمية على حساب امنه واستقراره.
من خلال النظام الرسمي العربي الذي انهار بسقوط نظام البعث في 4 نيسان 2003 كان العراق يحتل "البوابة الشرقية" لهذا النظام. وبموجب هذا التعريف ادخل صدام العراق بحرب مدمرة عبثية امام ايران دامت ثماني سنوات. وتحمل العراق تداعيات هذه الحرب عندما غزا الكويت حيث خسر العراق فيها ارضه وسيادته وثرواته ليدخل مرحلة الحصار القاسي الذي احرق الحرث والنسل. وما زالت الذاكرة العراقية تختزن الاثار المدمرة القاسية لجيل من العراقيين توجت بعد ذلك باحتلال العراق من قبل القوات الاميركية.
السؤال الان هل ان الولايات المتحدة تريد احياء فكرة "البوابة الشرقية"؟ وما هو الدور المرسوم للعراق كما تريده الادارة الاميركية ومعها دول الاقليم؟.
ربما من الصعب احصاء ما تفكر به مراكز القرار في الولايات المتحدة بشان مستقبل العراق، حيث تشكل مراكز البحوث والدراسات احد اعمدة الدوائر التي تسهم في اتخاذ القرارات والتصورات بشان مناطق النزاع في العالم. وتمثل المراكز البحثية والدراسات الستراتيجية احد اهم المصادر الأميركية بالتخطيط الستراتيجي وصياغة سياسة خارجية للولايات المتحدة الأميركية، ولذلك فإن معظم الدراسات التي تقوم بها هذه المراكز ومنها "معهد واشنطن لسياسة الشرق الادنى الذي يعمل به بولوك" تجد طريقها لتكون عاملاً محدداً ومؤثراً في صنّاع السياسة الخارجية إما بشكل مباشر أو غير مباشر.