يناقش الكاتبان فرانسين بروس وبنيامين موسر بعض الاسئلة عن عالم الكتب، وخصوصا اسلوب عظماء الكُتّاب الروس في الاقتراب من قلب الانسان وعاطفته.
ولمعرفة لماذا ما زلنا نقرأ الادب الروسي بمتعة وانبهار، هو ما يتميز به الكُتّاب الروس في القرن التاسع عشر من قوة ووضوح وصدق ودقة في تصوير النواحي الاساسية للتجربة البشرية، إذ اظهرت أعمالهم الكثير من الوقائع والعواطف المهمة التي لا تُنسى، كالطفولة والموت والزواج والسعادة، الوحدة والخيانة، الفقر والثراء، اوقات الحرب
والسلام.
يمكنني أن أذكر سعة ومدى نجاحهم بجعل الفردية تبدو عالمية، على الرغم من أنهم عاشوا في البلد والعصر ذاته، إلّا أنهم يختلفون عن بعضهم بعضا. ويمكنني أن أحيي قدرتهم على إقناعنا بأن هناك شيئا يشبه الطبيعة البشرية، وأن شيئا ما يجعل قلب الإنسان وروحه يتساميان عن الفروق السطحية للصفة القومية والطبقة الاجتماعية والعصر. ويمكنني أن استشهد بالتصورات الجامحة للكاتب نيقولاي غوغول الذي تمكن من جعل حادثة غير محتملة الحصول –رجل يكتشف اختفاء أنفه بعد استيقاظه – تبدو معقولة ومقنعة، وهي الطريقة ذاتها التي ظهرت بها شخصيات دوستويفسكي وكأنها حقيقية وحيّة، حتى وإن اعتقدنا أنه لا يوجد شخص يتصرف مثلهم فعلا، فهي ترمي أنفسها على أعتاب الآخرين لسرد قصص حياتهم بشكل مطول وبتفاصيل دقيقة. أمّا تشيخوف فقد تميّز بالحزن ومهارته العجيبة في إظهار المشاعر العميقة للرجال والنساء والأطفال في مسرحياته وقصصه القصيرة، بينما ملأ تولستوي لحظاته البسيطة بالطموح والحكمة كصنع الحلوى وجمع الفطر، أو مجموعات ملحمية كسباق الخيول المأساوي ومعركة بورودينو. أمّا تورغينيف فقد تميّز بدقة تصوير المنظر الطبيعي وإتقان تقديم الشخصيات الغامضة في النهاية.
من أين نبدأ؟
يمكن أن أقترح لأي شخص يبحث عن سبب هذا التميّز قراءة كتاب نابوكوف «محاضرات عن الادب الروسي»، الذي قد تكون بعض جوانبه مثيرة كتحيزات نابوكوف الأرستقراطية وازدرائه «عصبية وجنون» دوستويفسكي، وإقصائه معظم أدب الحقبة السوفييتية. ومن جانب آخر لم يكتب أحد بوضوح عن القصتين الأكثر تأثيرا لتشيخوف، (The Lady With the Little Dog - السيدة صاحبة الكلب) و(In the Gully - في الأخدود)، أو يقدم مناقشة شافية لتألق رواية -Anna Karenina- آنَا كارينينا”. ومع هذا قد نقف عند الاقتراح بأننا إذا لم نقرأ أعمال غوغول بالروسية، فيجب ألا نقرأ له أبدا، ويتزايد إعجابنا بغوغول من خلال تفسير نابوكوف للكيفية التي استبدل بها التقاليد الموروثة من القدماء بلغة وصفية حديثة ودقيقة. إن الإطلاع على اللغة الروسية أفضل من قراءة أعمال نابوكوف الروسية، لأن كتبهم تفاجئنا أحيانا بالمزيد من الجمال والمغزى في كل مرة نعود إليها، ويبدو أنها تتقادم وتتغير معنا. وأنصح البدء برواية غوغول (The Overcoat- المعطف)، أو (First Love - الحب الأول) لتورغينيف، أو إحدى روايات تشيخوف (The Black Monk- الراهب الأسود، Ward No. 6- جناح رقم 6، The Bishop- الأسقف، The Duel- المبارزة)، أو رواية (The Brothers Karamazov- الإخوة كارامازوف) لدوستويفسكي، أو إحدى روايتي تولستوي (آنَا كارينينا) و(The Three Hermits- الناسكون الثلاثة) التي تعد حسب اعتقادي من أفضل ما كُتب عن قيود التربية.
تحويل اللغة الكنائسية
ومن الصفات المميزة والغريبة للأدب الروسي أن أول رواية ظهرت باللهجة العامية لم تكن نسخة أصلية بل مترجمة عن الفرنسية، وكان ذلك بعد قرنين من الزمن على تحويل بقية دول أوروبا لهجتهم الكنائسية، وأشاد الشاعر الايطالي دانتي في أوائل القرن الرابع عشر ببلاغة اللهجة العامية، كما قدم الفرنسي دي بيليه في القرن السادس عشر دفاعا وتفسيرا للغة الفرنسية. أمّا اللغات التي ينطقها عدد قليل من الناس كالهولندية والبرتغالية والبولندية، فكان لها أدب واسع ومميز، عندما كان جميع الروس منتشرين في ملاحم القرون الوسطى والأعمال التعبدية المكتوبة باللغة الكنائسية.
لقد نشرت خبرات الكتاب الروس خصوصية تاريخهم الوطني، لكن لا يوجد شيء وطني خاص عن المشاعر المتفجرة من خلال المظاهر الخارجية المحفوظة بعناية في حياة كل انسان، واكتشاف الروس الاعماقَ لا يعني إهمال عظمائهم مظاهرهم الخارجية المشرقة، التي تجعل من بريق مجوهرات Fabergé رومانسي جدا، ويجعلنا نشعر بالأسى لفنائها.
كتب جوزيف برودسكي إن الروسية جمعت “تعقيدات الأمة الأعظم” مع “التدني الكبير المعقد لدولة صغيرة”. ففي عقلية الأمة التي تأخرت كثيرا بالوصول الى تجمع الحضارة الأوروبية جعل أكبر بلدان العالم قروية بنحو غريب. لكنها قدمت رغم صغرها أو ضخامتها استعارة واضحة للتناقض الشديد للنفس البشرية. لكن لا يوجد تناقض كاف بين المناطق الزمنية الثمانية الممتدة من متاحف ارميتاج وماغادان، وإدراك هذه المسافة جعل الكتب الروسية بأفضل ما تحتويه انعكاسا لكل الحياة البشرية وتقترح فقدان الكليشة القديمة “الروح الروسية” للوصفية.
نيوريوك تايمز