علي حسن الفواز
تضعنا رواية "موت الأم" للروائي حنون مجيد أمام لعبة مفتوحة للحكي، تتبادل فيها الشخصيات وجودها ووظائفها عبر سرديات المكان والزمن والجسد، فالمكان البغدادي/ باب الشيخ يتحول الى فضاء سردي تحتدم فيه علاقات ظاهرة بحسيتها وسحريتها ومناورتها، وعلاقات خبيئة ومضمرة تجوس في أعماقها رغائب وخيانات وعواطف مكبوتة.
والزمن يرهن تحولاته بتعدد الأصوات التي يتوزعها الآباء والأبناء، فهم يروون سيرتهم فيه، ويكشفون عن حيواتهم المضطربة في عالم غامر يستدعي صراعاتها وانكساراتها، والجسد يكشف عن سرائره عبر ما يتبدى في سردنة محن الشخصيات، إذ يتناظر فعل اللذة مع هواجس الفقد والتعويض، وإشباع الرغبة مع الخطيئة، وهو ما يبدو واضحاً في تداعيات شخصيات "عبد الغفور، الأم، أم سمير، رأفت، سعاد" بوصفها شخصيات أضحوية للزمن العراقي، ولسرديات الكبرياء والرغبة والفقد، مثلما هي شخصيات تعيش محنة وجودها عبر نقائض يومياتها، وعبر إيحاءات صراعها في الواقع، ومع الجسد ذاته.رواية "موت الأم" تتسم بدقة تصويرها لواقع إنساني مُستلب، إذ تعيش استلابه شخصيات الهامش الاجتماعي، عبر شحنه بطاقة الحكي الذي تسرده، أو عبر ما تعترف به من خيبات وانكسارات وهزائم، إذ تتبدى اللعبة السردية وكأنها اشتغال سيميائي على تلك الطاقة، إذ تنطوي تلك اللعبة على" كمائن سرديَّة" كما يسميها محمد صابر عبيد، وعلى مسارات نفسيَّة، تنطوي على المفاتيح السردية لأزمة تلك الشخصيات، والتي تكشف عن أعماقها، مثلما تكشف عن واقعها الخارجي، وعبر تمثلات سرديَّة لصراع اجتماعي وسياسي يتوافق مع حساسيات تلك الشخصيات وهي تواجه الفجيعة والفقد والخذلان والموت، فبقدر ما هي شخصيات واقعيَّة تعيش محنة الواقع السياسي وتحولاته وأزماته، فإنها شخصيات مضطربة تتفجر أزمتها الداخليَّة عند لحظات الموت والخيانة، والخطيئة، لتبدو وكأنها أقنعة لأزمة وجوديَّة، وإنسانيَّة عميقة.
محنة الشخصيَّة ومحنة الواقع
هذه الثنائيَّة توسّع فضاء السرد، وتُحيل الى التاريخ، والى السيرة، فالروائي يبني رؤيته على أساس متابعة سيرة العائلة، لكنه يتلصص من خلالها على ما يجري في الواقع السياسي بشكل خاص، إذ يشي اضطرابه بالصراع، وبالعنف، وبدلالات تنعكس على توصيف الشخصيات، وعلى علاقتها السرية والظاهرة مع الآخرين، فالأب الذي يصنع المخبوء عبر علاقته المثيرة مع سعاد، يقابله الإبن بعلاقة "فرويدية" سرية مع أم سمير، والتي تتكشف من خلالها دلالات الحجب والاختفاء، وبما يجعل الرواية وكأنها تقوم على فضح الأسرار، وعلى هتك ذلك السري والمخبوء، وعبر تقانات أراد لها الروائي أنْ تكون عتبات تبئيريَّة تستجمع لعبة السرد، والتي يرصد من خلالها وجهات النظر المتعددة والقلقة للشخصيات، حيث الاعتراف والتطهير والإشباع، وحيث ما يتكشّف من الواقع المتحول من رعب وتصدّع ومظاهر انتظار الموت، أو ما سيفعله السرد في ذلك الواقع، عبر اصطناع حيوات مجاورة، وعبر استثمار تقانة التخيّل لتعزيز الرؤية السرديَّة، وعبر استخدام حيل السرد وهي تصطنع أنساقاً تعبيريَّة متشابكة لهذه الشخصيَّة أو تلك، عبر ترسيم حدودها داخل الرواية، وعبر تقديمها وهي مُتخففة من وطأة المونولوج الداخلي، وبالاتجاه الذي يمنح الروائي طاقة السارد الموضوعي الذي يوجّه الأحداث من جانب، أو بقصديَّة من يبحث عن مؤلف داخلي موازٍ لصياغة حكايات أو أصوات تعيش أقنعتها الشخصيات من جانب آخر.. البعد التبئيري للعنوان لا يقل أهمية عن مستويات التبئير الأخرى في الرواية، فهذا العنوان يوحي بشفرة سيميائية لفكرة الموت، لكنه الموت الذي يُحيل الى مجاورة حادة للحياة الضد التي تعيش رعبها واستلابها وانتظارها الأم، والشخصيات التي تعيش سردية هذا الموت، وليبدو وكأنه موتٌ سيميائيٌّ يُطيح بحميميَّة العلاقات في العائلة، ويكشف عن احتجاج عميق للضعف الإنساني والأخلاقي الذي تمثله الأم، وضد رمزيَّة القوة التي يمثلها الرعب الجنسي الأب، أو رغبة الابن الفرويدية المتشظية عن رغبة الأب الإشباعيَّة، مقابل ما تجسده الابنة "آمال" من موقف يجعل من فكرة الأضحوية موقفاً متعالياً على خطيئة الأب والابن، إذ يعكس انحيازها للأم ومشاركتها رحلة الألم والعطب نوعاً من التطهير الجسداني والأخلاقي.
غربة الجسد وغربة الواقع
الفعل السردي لشخصيات حنون مجيد يتبدى عبر وظائفها، فبقدر ما تبدو الرواية محكومة بشفرات المكان/ المقدس، والمكان العمومي، فإنَّ وظيفة الشخصيَّة تصطنع معادلة سرديَّة تقومُ على قصديَّة التمرد، والتعبير عن أزمتها، وعن المجاهرة برغبتها المكبوتة، مقابل ما تنزع إليه وهي تواجه انهيارها، عبر التوهّم باستعادة ارتباطها العاطفي والانفعالي، وهذا ما يجعلها أكثر تمثيلاً لفعل الاغتراب الداخلي، حيث تبدو غربة الجسد وكأنها غربة مركبة، حيث تواجه الذات ما يُهدد وجودها، وحيث يختلط الايروس مع الكبرياء والخوف.
هذه الغربة تكتسب بعداً وظيفياً، ينعكس عبر استثارة الشخصيات، وعبر تفجير أزمتها، مثلما تعكس بعداً سيميائياً لإبراز هيمنة فكرة الموت، بوصفه الواقعي، أو العلاماتي، وحيث يقترح هذا الموت شبكة دلاليَّة تفضي الى فضح السلطة/ سلطة الأب والواقع والى ما يحدث فيه، والى تعرية الشخصيات من أوهامها وسطوتها، والتي يضعها الروائي أمام حالة استنفار مثير، وملتبس، تتمثله شفرة الإشارة الى تعالق موت الأم مع موت الواقع بدلالته السياسية، مقابل حضور أدوات لعبة السرد بوصفه "علبة أدوات" كما يسميها ميشيل فوكو، لاستدعاء ما هو تأويلي، أو بنائي أو سيميائي، أو حتى واقعي، والذي يقترح للقارئ مستويات متعددة لقراءة هذه الرواية عبر ما تحيله الى الواقع، أو عبر ما يمكن أنْ تهجس به رمزيتها من تمثلات وإحالات، يمكن أنْ تستدعي زاوية أخرى للقراءة، ولعبة الحكي وطاقته المفتوحة..