د.عبد الواحد مشعل
لا يمكن الكلام عن المستقبل من دون الرجوع الى الجذور الثقافية لتكوين المجتمع العراقي خلال التاريخ، فالجذر التاريخي الحضاري للشخصية العراقية استند الى عامل التنوع الثقافي والإبداع الناتج عنه، وقد مر العراق بمراحل تطور وانحطاط وشهد انقطاعا حضاريا كان له الأثر الكبير في نشوء أزمات خانقة هددت كيانه الحضاري والسياسي وهويته الثقافية فيه، لكنه سرعان ما يعيد انتاج حضارة جديدة في شكلها إلا أنها من حيث المضمون لا تخرج عن ذلك الجذر الحضاري الذي صنع أول أبداع حضاري في تاريخ الإنسانية، واستنادا الى هذه الرؤية ينبغي أن نبني تصوراتنا عن مستقبل المجتمع استنادا الى ما عاشه من أزمات الماضي وما تعرض له نسيجه الاجتماعي من تهديد خطير داخلي وخارجي، الأول تلك الأزمات التي رافقت المجتمع خلال تاريخه القريب، والثاني التحديات الخارجية.
وفي هذا المجال ينبغي أن نفصل كل ذلك، تراجع التنمية ودخول البلاد بحروب لا طائل ورائها سوى الدمار، ويمكن القول إنه، ومنذ منتصف ثمانينيات القرن الماضي، شهد تطورات سياسية واجتماعية ومر بأزمات وكوارث منها حرب الخليج الأولى وحرب الخليج الثانية، أدت إلى هزات عنيفة طالت القيم الاجتماعية والبنى الاقتصادية والسياسية والثقافية للمجتمع، واليوم يمر المجتمع بحالة تحول جديد يقوده جيل جديد يحمل تصورات ثقافية متفاعلة مع موجات اتصالية واسعة وسريعة، فلدى هذا الجيل الاستعداد الإبداعي للنهوض بعراق معافى وقوي، فثقافة الأجيال الجديدة اختلفت في شكلها ومضمونها عن ثقافة الآباء والأجداد حتى أصبحت مندمجة ثقافيا مع أجيال الشباب في الشرق الأوسط، بل مع ثقافة العالم المتأثر بالثورة الاتصالية العملاقة التي تجتاح عالم اليوم، سواء من حيث الوعي بتشكل ثقافي قيمي واهتمام تقني فني متجاوز التجريديات النظرية، أو في طريقة فهمها الحقوق وأساليب ممارستها.
لذا ننحن أمام ولادة بناءات ثقافية واجتماعية وسياسية جديدة ترسم ملامح الثقافة العراقية الجديدة، فلم يعد المفهوم الانثروبولوجي للثقافة الذي جاء به تايلور ينطبق كليا على مفهوم الثقافة اليوم، بل إن الذي أصبح أكثر ملائمة لحالة التطور في بناء الثقافة العراقية في المستقبل المنظور هو مفهوم فرانز أوري يواس الذي يعد من أكثر علماء عصره مناهضة للعنصرية وايدولوجيتها، فمفهومها عنده يقوم على الاختلاف الذي يعده أساسيا بين الجماعات المختلفة، الذي ينبثق أصلا من النظام الثقافي نفسه، وليس على أساس الاختلاف الرسّي أو العرقي، و في هذا الإطار تمكن من تقديم نظريته في النسبية الثقافية القائمة على أساس أنه ليس هناك ثقافة أفضل من أخرى إنما تكون الثقافة مقدرة ومتقدمة في نظر أبنائها.
وبهذا فإن المنظور الثقافي للمجتمع العراقي مستقبلا يقوم على أساس قيام ثقافة شبابية لا تفضل ثقافة محلية على أخرى، بل يكون السياق الثقافي قائما على أساس المفاضلة والاحترام الشكلي والضمني لثقافة الآخر وبهذا فإن ولادة ثقافة مجتمعية ستكون في صالح بناء الدولة المدنية التي تتعزز فيها هذه المفاهيم وتتخلص من عقد الماضي بأشكالها كافة.
لم يعد في قاموس المستقبل الثقافي العراقي المرتبط بولادة بناءات جديدة تقبل هيمنة الدكتاتورية أو التهميش أو هيمنة الايدلوجيات ، فالموجات الاتصالية الجديدة نقلت المجتمع العراقي الى مرحلة جديدة من التشكل الثقافي عماده الأجيال الجديدة التي باتت لا تؤمن بالبناءات الثقافية الجديدة. وقد تجاوزتها من دون أن تشغل نفسها بجدل أو نقاش فهي ماضية في طريقها متأثرة بالموجات الاتصالية السريعة، فلم يكن لدى هذه الأجيال الوقت الكافي كي تلتفت الى الخلف وستشهد العقود القادمة من القرن الواحد والعشرين تحولات ثقافية تعمل على تشكيل بناءات اجتماعية واقتصادية وتنظيمية متطورة لم يكن للمخططين التنبؤ بها ما يعني ولادة نوع من القصور المعرفي التقليدي من اللحاق بها أمام معرفة متولدة باستمرار تتشكل بطريقة تتماشى مع التطور التقني والمعلوماتي المتصاعد في النمو، وينبغي على الباحثين والدارسين دراسة هذه الظاهرة بجميع جوانبها وبيان انعكاسها على الانتماء الوطني ومدياته الثقافية والتراثية بحيث يمكن بلورة مفاهيم جديدة تخدم المجتمع العراقي وتضعه على مسار التطور المعرفي، ويتم حل الأزمة القائمة، والمستقبل الذي نتمناه للعراق هو السلام والرفاهية بعدما يتم مراجعة السياسات الماضية، والتحول الى مرحلة بناء وطني حقيقي وإذا تعمقت هذه الفكرة لدى البنية السياسية العراقية سيتحقق الذي نتوقعه من الانتقال الى حالة تنمية العراق وتسخير قدراته العلمية والاقتصادية والبشرية لصالح العراقيين، والعمل على تحقيق تنمية عراقية خالصة وبناء الذات العراقية وفق القيم الحضارية التي تعبر عنها الأصول الحضارية في عمق تاريخ العراق، وعكس ذلك ستزداد الأزمات الاجتماعية والاقتصادية تعقيدا مع تباعد طرق التفكير بين الأجيال التقليدية بما فيها أصحاب الايدلوجيات التقليدية وأصحاب التوجه الجديد الى بناء شخصية تتحرك وفق إيقاع التحولات الحضارية التي يشهدها عالم اليوم، ما يتطلب استثمار قدرات الشباب في رسم خريطة ثقافية جديدة للشخصية تكون بداية معرفية تعمل على الحفاظ على الثوابت التاريخية والحضارية للمجتمع العراقي بحيث تكون قاعدة انطلاق للأجيال الجديدة نحو الغد، وهذا لا يأتي عشوائيا أو نظريا إنما على أساس تبني معرفة علمية تحرر العقل من البنى المعرقلة لعملية التحرر الاجتماعي على أن لا يكون ذلك على حساب التاريخ الحضاري وقيمه الدينية
والثقافية.
ووفقا لقراءة اجتماعية وثقافية لهذا الواقع، فإن المجتمع العراقي من أكثر مجتمعات الشرق الأوسط قدرة على التخلص من أزماته وبناء نموذج حضاري والسبب يعود أصلا الى الثقافة العراقية في تكويناتها الأولى وهي تكوينات مدنية وهذا يعني أنها ولادة للمعرفة وهذا ما يجعلنا أكثر تفاؤلا بمستقبل أكثر قدرة على التماسك والتعايش السلمي واحترام الآخر،وهذا ما نتطلع إليه، فالمجتمع دخل في مرحلة جديدة من التحول الاجتماعي والثقافي والمعرفي الذي سيفضي الى بناء دولة المواطنة وسيادة القانون.