ضحى عبد الرؤوف المل
تتحول القراءة في كتاب "غرق الحضارات" للمؤلف"أمين معلوف" الصادر عن "دار الفاربي" إلى مغامرة نحزم من خلالها الأربطة، ليغمرنا بالثقافات والأفكار التي تتنازعنا، وتزيد من الفضول الذي يغذي فكرة غرق الحضارات، والبحث عن حطام السفن لالتقاط خشبة الخلاص. فهل ستتغير نظرة القارىء إلى العالم المشرقي تحديدا بعد أن يقرأ هذا
الكتاب؟
أم انه يراعي التوازن الزمني للحضارات السابقة والحاضرة، التي ندرك انها ستكون موجودة من خلال رؤيته القوة التحويلية للبشرية بغض النظر عن مفردة الإنسانية، لأننا ما زلنا نستهلك بعضنا بعضا "في غالب الأحيان، يكون الأشخاص المنتمون إلى الأقليات ملقحين. إنهم يحومون، يرفرفون يمتصون الرحيق، ما يوحي بأنهم مستفيدون، بل طفيليون. وعندما يختفون، تدرك فائدتهم." فهل الطفيليات هي مصدر قلق يؤدي الى رؤية ذات معادلة تؤدي إلى الفناء أو إلى اختفاء حضارات وولادة حضارات جديدة لا تشبه الأخرى؟ أم أن الغرق يحتاج الى سفينة الخلاص أو نهضة عربية تعم كل الدول بعيداً عن الجدل السياسي، وعن القلق الموبوء وعن التمييز المجحف "الأمر يتطلب عناية يومية بجميع التوترات وجميع الاختلالات " فالمزج في الرؤى بين خبرة الايام أو ما رسخ في ذاكرته التاريخية مع أحداث اليوم هو دمج بين سيرة ذاتية تاريخية وتحليلات منطقية تنعكس على النتائج التي تتصدرها الأحداث. فما هي المراحل التي تؤدي إلى " بقاء الوطن وازدهاره ومكانته في العالم وسلمه الأهلي على المحك" في كتاب أشبه بسفينة نوح؟
تتنازع الأحداث المسار الذي رسمه "أمين معلوف" في كتابه الغني بما حفظته الذاكرة، وترجمه الزمن وبرهنت عليه الانتكاسات المتعددة التي تسببت بالتشتت في ذاكرته، كما فرضت نوعا من تضامنٍ لا شعوري مع كرب مدينته التي تشبه كتاب ذكريات مفتوح على عدة رؤى، كأنه في هذا الكتاب يحمل غصن الزيتون كحمامة نوح ويبحث عن مستقر لتبصر الحضارة التي يؤسس لها النور بعيداً عن كل ما شهدته الحضارات كلها ، ولبنان هو الجزء الاهم فيها لأن البلدان التي خسرت الحرب العالمية الثانية استطاعت تغيير وجهة طريقها "وآثرت الرهان على التنمية الصناعية والسعي وراء تحقيق الإزدهار.
ولقد أحرزت بالفعل، في الميدان الإقتصادي، نجاحات مذهلة، دفعت بها، في غضون عشرين عاما، إلى صدارة أمم العالم، مما أثار أحيانا حسد البلدان التي هزمتها". وهذا ما يميز تقدم الشعوب وتقهقهر الشعوب
الأخرى. فالمسألة في كتاب غرق الحضارات هي القلق مما جرى في الماضي وكيفية تصحيحه واعادة بناء الأسس الجديدة التي من شأنها أن تضع مصير الإنسانية على المحك، بل الإنتباه من اخطاء وعثرات الماضي والانتكاسات التي تؤدي الى القنوط واليأس وعدم التقدم والإزدهار، بل الاكثر من ذلك السقوط في منزلقات خطرة لا يمكن الخروج منها مما يجعله يخشى اكثر من التراجع الحضاري والتمزق البشري ومحق الإنسانية وهذا اسوأ ما يحدث في زماننا هذا. فهل القبول باختلاف الآخر عقيدة وفكراً يورث التنافس البناء برأي أمين معلوف؟ وهل العالم العربي هو القلق نفسه بالنسبة
له؟
يرتق المعلوف صدوعا اجتماعية، بتؤدة تحليلية، تعيد النظر بسلوكيات وقرارات وتفاعل عالمي مع البلدان الكبرى وما سماه "سنة الإنقلاب الكبير" الذي جاء نتيجة كل ما ذكره في فصول كتابه من مسألة القومية والحرص على سلامة الاختيارات بين الدول الكبرى وجسورها الاقتصادية والدينية، مما يجعل من سنن التطرف تبرز من خلال الكثير من المخاوف التي تتغذى من كل ما ذكره قبل ذلك "وبالطبع، لكل من هذه الحوادث علة
وجوده. غير أن الوتيرة التي تعاقبت بها كانت تدل في ما يبدو على أن واقعاً جديداً سيبرز للعيان". فمعاناة العالم بأسره تضعنا امام خسارات قوية مسكونة بالتغيير، وربما بالتدميير لحد الإندثار والفناء فالحدس التحليلي الذي جعله يبدأ من سيرته الذاتية والاماكن ذات الصدى الطفولي والشبابي في بيروت هي التي جعلته يستكمل مسيرة تاريخ سيحط رحاله في القرن الواحد والعشرين، وبحرص شديد يثير القلق من الانجرافات الطاغية على نتيجة مؤكدة بعيدة عن الإحتمالات، بل هي واقع تؤكدة الأحداث التي تسلسل معها في الكتاب، ليجعلنا نرى ما نراه ونخشى من تأثيرات كثيرة منها النقط وانعكساته السلبية لا الايجابية مؤثراً التجانس البشري والفكري، وبصرخة مدوية على جميع المستويات.
مما جعلني أتساءل عند نهاية قراءة الكتاب: هل نحتاج فعلا الى حمامة نوح لنهتدى ونبني حضارة جديدة تشع منها الإنسانية التي يفتقدها المعلوف في كتابه الذي منحه هوية مغامرة
بشرية؟