محاولة لتخصيب النثر التراثي

ثقافة 2020/01/22
...

 د.صباح التميمي
 
الشعريّةُ جوهرٌ يتجلّى في روح الأشياء لا جسدها، يعتري لبَّها وينأى بنفسه عن القشور، هي طاقة كامنة في النص بغض النظر عن شكله، فلِمَ يتشبّث البعض بمقولات (العمودية) في شكل كتابته، ويتعمّد أن يُحجّمَ الشعرية، ويكبّل طاقاتها فيُرغمها على أن تكون وقفا على نمط كتابي واحد وهو (الشعر)، وهذا ما يفعله معظم كتّاب (قصيدة النثر)، فهل النثر يحتاج إلى (خدج) شعري حتى يكتمل نموه الفني؟! وهل أنّ كتابة النثر بطريقة عمودية على شاكلة (التفعيلة)، تمنحه شرعية البقاء، وتجعله يولد مكتملا بتسعة أشهر، وترك هذا النمط من الكتابة يجعله يُولد سباعيا؟! النثر كتابة أدبية رائعة، تختزن طاقات شعرية خاصة، قابلة للتطوير، يمكن الانطلاق من منطقتها التراثية نحو فضاءات الحداثة، وما بعدها، لصناعة كيانٍ أدبي مستقل بنفسه كما كان ، وانتشال ما تبقّى منه، بعيدا عن محاولات زجّه في ميدانٍ أدبي آخر لطالما شكّل معه ثنائية ضدية رسختها الأدبيات العربية منذ بواكيرها. 
إنّ نمط الكتابة النثرية الأفقية الجديد، هو في الحقيقة حركة إحيائية تستهدف إعادة تخصيب ما مات من متنٍ نثري، هي خطوة جادة نحو تذويب الجمود الذي غلّف الكتابة النثرية، منذ الصاق (القصيدة) بها، وولادة الهجين الفني (قصيدة النثر)، إنّه نثر - أيها السادة – ويكفيه تاريخه الفنّي أن يقوم بنفسه دون الاستعانة بتسميات أخيه المهيمن على العقلية العربية (أعني الشعر)، هو تشكيل جمالي ذو سمات ناضجة، نجحت في منحه هويته الخاصة، التي تجعله يقف مرفوع الرأس بين أجناس الكتابة الأدبية. 
وهذا ما نتلمسه في تجربة الدكتور عمار المسعودي التي طرأت عليها في الآونة الأخيرة تحولات خطيرة، حين أخذ يكتب (النثر) بشكل أفقي، فيخلق لنا كتابةً فنيّة رائعة، مشحونة بطاقات خيالية، تضجّ فيها (شعرية) ناضجة، ومن ذلك نصّه الآتي: (لامهربَ لي من أشياء تتكاثر أو تتناقص أو تحافظ على عناصرها بحيث تتمكنين من تقريبها لامعةً من وجنتيك . لاسفينةَ في هذا الغروب تنتظر هربي.  يومٌ كاملٌ قد ابتدأته بمثابرة لا مثيل لها؛ رغم ذلك فإنّي لم أجد تأويلا مناسبا لوجودي طيبَ القلب حتى نهاية النهار. أتناسب مع كثرة مواعيدك مثلَ فراغ يتسلل ما بين أقداح فارغة. أما ما يخص أشواقي فعليَّ لتصوير كل ذلك باشعال غابات يابسة. أجده متكدّسا مثل دعوات غير مقبولة لمؤمنين محتسبين في كهف أو في زاوية من جبل من اتكاءٍ على كثيب أو في صحراء قلبي نبضا عليك. الذي يشابهني في تراجعات متراتبة أجده دائما ما يتحاشاني أملاً في الشفاء. قد يتوجّب علينا محو سيرٍ كامل كي نشير بصورة مناسبة إلى سباتنا؛ أو نكتب لمسات يأسٍ على باب بأصابع لايعنيها الطرق بقدر تسجيل موقف جيدٍ من الهجْر. لماذا نستلذ بالعبث على أيِّ بياضٍ يصادفنا؟ اللوحات التي دائما ما تسوَّقُ بألوانٍ داكنة لا تعتني بإيصال رقصات التلاميذ إلى أجنحة الفراشات. عدم ايجادي في الجبن الأبيض؛ هذا لايعني أني موجود خارج المراعي. الملاعق اللامعة تعدّ سرا من أسرار الطهاة؛ فلماذا نحاول تلمسُها واحدةً بعد أخرى من غير أي سبب. اختصاركِ في قميصٍ زهري يبدو واضحا من على واجهات زجاجية صقيلة جدا؛ هذا ما يسهل عليَّ أمرَ نسيانك). 
 ينهض النص على شعرية (التماثل بين المتنافرات)، عبر خلق الكتابة النثرية لتماثلات تصويرية بين أشياء متخالفة، او متباعدة جاءت من عوالم شتى، خصّبها خيالُ الكاتب، وخلق لها عالما خاصا بها هو (نصّه) هذا، فلا علاقة مثلا بين (تناسب الانا مع كثرة مواعيد الآخر) و(صورة الفراغ الذي يتسلل بين أقداح فارغة) في قوله : (أتناسب مع كثرة مواعيدك مثلَ فراغ يتسلل مابين أقداح فارغة)، إنّ صورة الفراغ الذي يتسلل بين أقداح فارغة صورة تمثيلية مركّبة تصوّر لنا تشبّث الأنا بالآخر، وتُعطي زخما لهذا التشبّث، وديمومة لبقائه، فالفراغ بين الأقداح فيزياويا لا ينتهي، وتناسب الأنا مع الفراغ الذي تخلقها مواعيدها الفارغة لا ينتهي، لأنها مستمرة بالمماطلة وهو مستمر بحبه لها، ولا علاقة أيضا بين صورة (الحبيبة) بمعيار الحقيقة طبعا، وصورة القميص الزهري الذي يختصرها خياليا، فيجعل الكاتب يراها مع رؤيته لكلّ قميص زهري ترتديه دمية بلاستيكية معروضة في واجهات زجاجية صقيلة لمحلات فاخرة، هذه الصورة وحدها تفجّر طاقة النص الكامنة، وتُفشي أسرار هذا الحب العنيف، الذي يجعل العاشق يتخيّل عشيقته في كل شيء، حتى في تفاصيل الحياة التي نراها اعتيادية. بقي أن نتساءل ما المانع من أن يكون هذا النمط الكتابي محاولة لإعادة بعث (نثر الجاحظ أو التوحيدي أو النفري)؟ وهل عدم كتابته بقالب عمودي يُقلّل من نسبة شاعريته عند المتلقي؟! هكذا نصوص تثبت سذاجة التمسّك بكتابة النثر بطريقة عمودية ؛ ليحاكي شعر التفعيلة، ويكتسب شرعية وجوده في عالم
الشعر الأوحد .