علي حمود الحسن
فضيلة السينما- ربما من دون الفنون- في قدرتها على الغوص في أحداث الماضي السحيق وجلبها الى الحاضر، تماما مثلما تفعل مع المستقبل والحاضر، وفي كل تلك الحالات توهمنا بواقعيتها، فنتماهى مع أبطالها ونتفاعل مع أحداثها، وهذا بالضبط ما فعله المخرج الأميركي "سام منديز" بفيلمه الجديد "1917" الذي استرجع فيه أحداث الحرب العالمية الأولى، التي مرّ على تاريخ اندلاعها قرن من الزمان، وهذا أمر طبيعي في الانتاج السينمائي العالمي، إذ لا يخلو موسم من انتاج فيلم حربي، لكن المفاجأة أن صاحب "العقل الجميل" قدّم حكاية بلا تعقيد، أو تفاصيل لجندين انكليزيين يكلفان بمهمة خطرة، لإنقاد 1600 جندي بريطاني على وشك الوقوع في فخ ألماني، يموت أحداهما(بليك) ويواصل الثاني(سكوفيلد) رحلة جحيميّة تكاد تكون مستحيلة للوصول الى الكتيبة التي تتهيأ للهجوم، فينجح بإيصال رسالة توقف تقدمهم وتنقذ ما تبقى منهم، بمبنى سردي متفرد من خلال تصوير الأحداث بلقطة تتابعية طويلة، نكاد لا نشعر بتوقفها وبزمن يقترب من زمن الأحداث الحقيقي، فسيطر على المشاهد الذي وجد نفسه مندفعا مع البطلين في رحلتهما المرعبة وسط خنادق تعج بجثث الموتى، ومدن مهدمة وحيوانات مقتولة. ومثلما ابتدأ الفيلم بمشهد ربيعي للجندين وهما يتوسدان العشب تحت ظلال شجرة حانية، يكون مشهد الختام عودة سكوفيلد(جورج ماكاي) وهو يجر قدميه بوهن الى شجرة جردتها الحرب من أغصانها ونضارتها يتّكئ عليها ويقلب صور عائلته تستوقفه صورة كتب على ظهرها "عد إلينا" يغمض عينيه ويستسلم لبقايا حلم.
قصة الفيلم كتبها "منديز" بالتعاون مع الكاتبة "كريستي ويلسون كارينز" مستلهما واحدة من قصص جدّه "الفريد منديز" - أهدى الفيلم لذكراه- التي كان يرويها له في طفولته، عن أسى الحروب وأهوالها، ابّان مشاركته في الحرب الكونية الأولى، متّكئا في تنفيذ تحفته البصرية على مدير التصوير الانكليزي "روجرديزني" (لا وطن للمسنين، بليد رانر 2049، الخلاص من شاوشانك) الذي لا يعرف المستحيل، فكاميرته تجوس الخنادق ومواقع التصوير محمولة باليد مرة، وبطائرة أخرى، ومرات بواسطة "كرين"، واحتاج لتصوير بعض المشاهد الصعبة الى استخدام كاميرات محمولة على دراجات نارية، مبتعدا عن الإضاءة الصناعية التي لا تشتغل في هذا النوع من التصوير، فصوّر معظم مشاهد الفيلم بإضاءة طبيعية، عدا تلك التي نفذها "ديكنز" أثناء المطاردة في المدينة المدمرة والقصر المهجور، حيث يقابل (سكوفيلد) المرأة التي تحمل طفلة، إذ كان التصوير يتم قطعه بعد أن تدور الكاميرا لمدة تتراوح بين 8 الى 10 دقيقة، دمجها "لي سميث" وهو مونتير حاذق بشكل دقيق، فضلا عن موسيقى تصويرية لـ"توماس نيومان" رافقت قيامة البطلين، حتى إنها تحولت في بعض المشاهد الى جزء من بنية سردية، ولم يشغل الحوار حيزا كبيرا، كما هي رغبة "منديز" الذي أراد أن تكون الصورة هي من تتحدث، ما جعل مهمة الممثلينِ صعبة، لكنهما نجحا في التعبير عن الخوف والألم والضياع والرعب، إذ تبارا "جورج مكاي" و"دين تشارلز تشمبان" في تجسيد أهوال الحرب وعبثتيها، سندهم نجوم كبار ظهروا في مشاهد قصيرة بحضور طاغ منهم: "كولين فيرث" بدور الجنرال (إرينمور)، الذي يأمر الجندين بتوصيل الرسالة إلى الكتيبة المرابطة على الجبهة، لإنقاذ جنودها من مذبحة محتومة، و"بيندكت كامبرباتش" (قائد الكتيبة)، و"اندرو سكوت" وغيرهم.
هؤلاء الممثلون لم يكن عملهم سلسلا، إذ كان عليهم أن يكونوا ضمن مجال رؤية الكامير التي تتابعهم بلا هوادة، ما حول المجاميع الى محض كومبارس فلا تفاعل ولا تفاصيل صغيرة، ولكن ما الذي أراده "منديز" من استحضار الحرب العالمية الأولى في العام 1917؟ وما هي رسالته؟ في تقديري هذه ذات الصرخة التي أطلقها "ريمارك" في وصف قيامة الحروب: (وجوه شاحبة ملتصقة، أيد مسكينة ومتشنجة، والشجاعة تنتحب مثل كلب، وجوههم الميتة تحمل تعبيراً شنيعاً كوجوه أطفالنا موتى). "سام منديز" بأسلوب لا يشبه غيره أدان الحروب من دون ثرثرة زائدة.