أسباب تظاهر الشباب

اقتصادية 2020/01/28
...

د.ميثم العيبي
 

جرى الحديث؛ في أوائل العقد الماضي، عما عرف في أدبيات السكان بتوقع دخول العراق الى ما يعرف بـ(الهبة الديموغرافيَّة)؛ والتي تعني ذلك التحول في التركيب السكاني بحيث تتجاوز فئة السكان في سن العمل (15 - 65 سنة) والتي تسمى (الفئة الوسطى) نسبة فئة السكان المُعالة (أصغر من 15) التي تسمى (الفئة الصغرى) و(أكبر من 65) والتي تسمى (الفئة الكبرى)،

 وبوضوح فإنَّ هذه الفئة تحتاج الى وظائف وأعمال تسهم في التنمية الاقتصاديَّة، وبخلافه تتحول هذه الهبة الى (نقمة شباب)، وهو ما يعدُّ إحدى أهم مسؤوليات الدولة، التي لم تستطع تلبيتها، باعتبارها فئة منتخبة تمثل طموحات ناخبيها.
لقد تمت إساءة استخدام ثروة البلاد في تضخيم الجهاز الإداري للدولة، بشكل متسارع بعد سنوات 2003 وتم حشو هذا الجهاز بأعدادٍ كبيرة من الوظائف بغض النظر عن الحاجة لها، حتى وصلت الحال الى الضغط على هذه الثروة، وعدم المقدرة على تشغيل أعدادٍ جديدة، وذلك نتيجة العجز عن تكوين قطاع خاص وطني قادر على امتصاص الأيدي العاملة المضافة لسوق العمل، والتي تقدر بنصف مليون شخص سنوياً؛ وهو رقم مخيف، نتيجة ارتفاع معدل نمو السكان الذي يقدر بـ 2.8 % سنوياً.
إذ أصبحت أعداد خريجي الجامعات تتزايد باضطراد لتضاف الى قوة العمل العاطلة، وهذا ما استشعرته حتى فئة طلاب الجامعات غير المتخرجين بشكل مبكر.
إنَّ الدخول في مرحلة الهبة الديموغرافيَّة يشترط ألا تزيد نسبة من هم أصغر من 15 سنة (الصغرى) على 30 %، ولا تزيد نسبة من هم فوق 65 سنة (الكبرى) على 15 %، وحسب التقديرات فإنَّ الفئة المُعالة (الصغرى + الكبرى) في العراق عام 2020 هي 41.3 % والفئة النشطة اقتصاديا (الوسطى) 58.7 %، وهي نسبة كبيرة كان بالإمكان أنْ تكون العمود الفقري الداعم للحكومة والقطاع الخاص بقوة عمل لا يمكن إخراجها أو تجاهلها من معادلة السلطة خصوصاً تلك المتعلمة والمستعدة للتدريب والتطوير...
إنَّ ارتفاع معدل نمو الفئة النشطة اقتصادياً، ودخولها في مرحلة الهبة الديموغرافيَّة، جاء بسبب انخفاض معدلات الخصوبة من 3 % قبل 2009، الى 2.8 % بعد ذلك، وهي نسبة لا تزال مرتفعة مقارنة بالكثير من البلدان سواء الناميَّة أو المتقدمة، وجاء أيضاً بسبب انخفاض معدل الوفيات لكبار السن الذي بلغ 70 سنة عام 2015، إضافة الى انخفاض معدلات الوفيات بين الأطفال، وهكذا كان من المتوقع أنْ تصل نسبة الشباب من (15 – 29) الى 8 ملايين في العام 2020! كما تشير التوقعات لارتفاعها الى 8.6 مليون عام 2025.
إنَّ العراق دخل الهبة الديموغرافيَّة بين عامي 2010 - 2012 تقريباً، وكان المفترض أنْ يجني ثمار هذه الهبة في العام 2020، وذلك إنْ أحسن استغلالها، من خلال تهيئة السياسات والموارد اللازمة، فضلاً عن التعليم والصحة والتدريب والتطوير... لكنَّ العكس يقودُ الى تحول هذا السيل الجارف من الشباب الى فيضانٍ يتحول الى نقمة على السلطة التي لم تحسن استثمار هذه الموارد.
وأمام ذلك تم اللجوء لحل غير واقعي تمثل بتعديل سن التقاعد من 65 سنة الى 60 سنة، من أجل زج أعداد محدودة من العاطلين الى هذا الجهاز المتخم أساساً، كما جاء في الأسباب الموجبة للتعديل الأول لقانون التقاعد الموحد 9 لسنة 2014 (لغرض الاستفادة من الدرجات الناتجة عن حركة الملاك في استقطاب الملاكات الشبابيَّة) وهو أمرٌ لن يسهم بحلٍ جذري للمشكلة بل ترحيلها لمرحلة قادمة يمكن أنْ تتفاقم معها مثل كرة ثلج أمام عدم التمكن من إحداث تنمية حقيقيَّة وتفعيل دور القطاع الخاص الممتص الفعلي والدائم للبطالة.
لقد أجريت الكثير من الدراسات التجريبيَّة للعلاقة بين الدخول في مرحلة الهبة والنمو الاقتصادي، وأشارت إحدى الدراسات في بلدان جنوب شرق آسيا الى أنَّ 50 % من النمو الذي حصل في هذه البلدان للمدة 1995 - 2002 حدث عندما دخلت في مرحلة الهبة السكانيَّة، إذ ارتفع متوسط نصيب الفرد من الدخل بمقدار 6 %، كما سجلت هذه البلدان سلوكاً ادخارياً عقلانياً أدى الى ارتفاع معدلات الادخار من 30 – 45 %، وتحويلها الى استثمارات منتجة، وارتفعت معدلات التوظيف مقابل انخفاض معدلات الإعالة على مدى 35 سنة.
لقد وجدت فئة الشباب نفسها محرومة من المشاركة في اتخاذ القرار، كما وجدت نفسها وسط صراع مكوناتي لم تشارك في إنتاجه، مقابل تبديد ثروات البلد على هذا الصراع. في حين ترى هذه الفئة أنَّ جزءاً من هذه الثروات لا بدَّ أنْ يذهب الى تعليمها وصحتها وحماية حقها بالعيش الكريم وتوفير فرص عمل تستطيع من خلالها تلبية طموحاتها، ما قاد الى اغتراب هذه الفئة وانسلاخها عن المجتمع لتجد نفسها مرتبطة مع بعضها بشكل أمتن متجاوزة محنة المكونات، لتنخرط وتنسجم بشكل أكبر بعالمٍ آخر قوامه الحياة المدنيَّة المعاصرة، رافضة الواقع الاقتصادي والسياسي بشتى أساليب 
الاحتجاج.
وبحكم تطلعاتها والثورة التكنولوجيَّة وتواصلها اللحظي مع العالم الخارجي وتطوراته، وجدت نفسها مرتبطة بأحلام وطموحات العيش كغيرها من شباب العالم المتحرر والمنفتح والطامح للكسب وحق السكن والتعليم والصحة.
ومع أنَّ جزءاً مهماً من فئة الشباب لم تشارك في الانتخابات الأخيرة، أو الانتخابات التي سبقتها، فإنها تجد نفسها مجبورة على القبول بخيارات واشتراطات القوى المكوناتيَّة الحاكمة، التي تتركها محصورة بين خيارات مرة، فاما الانخراط في صفوف مشروع المكونات أو العزلة والبطالة وعدم المشاركة والاغتراب الداخلي والتفكير في مشاريع الهجرة والغربة.
لقد تكرس عدم العدالة الاجتماعيَّة وزادت محروميَّة فئات عديدة خاصة تلك التي لم تجد لها موطئ قدمٍ داخل الجهاز الوظيفي للدولة، مقسمة المجتمع بذلك الى مواطنين من الدرجة الأولى (فئة الموظفين) بالكثير من الامتيازات سواء في زيادات الرواتب، أو انخفاض الإنتاجيَّة والتمتع بفسحة من الاغتناء غير المشروع والفساد الإداري والمالي الذي أتاحه عدم المحاسبة الحكوميَّة، و(غير) مواطنين من الدرجة الثانية (غير الموظفين)، المحرومين من امتيازات النفط والعيش الكريم.
كما لم تستثمر الجهات التي اغتنت وراكمت رؤوس أموال كبيرة داخل البلاد، بل ذهبت لاستثمارها في بلدان أخرى، لتضاعف النمو الاقتصادي لتلك البلدان وبالنتيجة زيادة التوظف والدخل لشباب تلك البلدان، مقابل تراجع النمو الاقتصادي في الداخل وتزايد بطالة الشباب 
العراقيين.
إنَّ ارتفاع نسبة الفئة النشطة اقتصادياً، يعني بالضرورة ارتفاع نسبة النساء من هذه الفئة، انطلاقاً من أنَّ النساء يشكلن بحدود نصف السكان (49 %)، ما يبرر بالنتيجة بروز جيلٍ من الشباب (الاناث) الناقم، وذلك بسبب اشتراكهن في المحنة ذاتها التي يواجهها الشباب (الذكور)، في ندرة فرص العمل ومزاحمة الذكور لهم فيها، سواء في القطاع العام، أو الخاص (على ندرتها)، بل إنَّ النساء يواجهن ضغوطاً اقتصاديَّة واجتماعيَّة أوسع من تلك التي يواجهها الذكور، لجهة الحرمان الاجتماعي من الانخراط في الكثير من الأعمال، ونزوعهن الى مهنٍ ووظائف غير مرضية، ولا تتلاءم مع شهاداتهن (عاملات في مولات، مندوبات، معلمات في مدارس أهليَّة، نادلات، عاملات صالونات حلاقة، بلوكرات...)، فضلاً عن التعرض للابتزاز، والدور التقليدي للمرأة في العمل المنزلي الذي يحول دون مساهمتها في الأنشطة الاقتصاديَّة ما يعرف بـ(الفاقد النسوي).
إنَّ ظاهرة البطالة في العراق وصلت الى حدود 15 % (2015)، مع تركزها الواضح بين الشباب 30 %، (30.1 % للذكور و29.7 % لدى الاناث). كما ترتفع نسبة الفقر بين الشباب، التي تصل الى 22 %، القريبة من نسبة الفقر الإجماليَّة 23 %، وهي نسبة مرتفعة تؤثر في تحقيق الكثير من طموحات الشباب خاصة في بداية حياتهم بل تعيقها، ما يجعلهم معالين من قبل أولياء أمورهم، وقد يرمي بهم نحو الإحباط والعزلة والانخراط في أعمال العنف والهجرة. ومن المنظور الاجتماعي فإنَّ فقر الاناث أعلى من الذكور، وذلك بسبب طبيعة الحياة الاجتماعيَّة في العراق، التي تتيح للذكور ممارسة أعمال يحرم على الاناث الانخراط فيها.