طلقة أنثى ...

ثقافة 2020/01/29
...

   شكر حاجم الصالحي
هي واحدة من بين قلة نادرة مازالت تنتج نصوصا ترشح عن فهم واعٍ لوظيفة الشعر باستلهامه لمفردات الحياة اليومية وجعله وسيلة واداة للتعبير عن مكنونات النفس المشتعلة بإفرازات تستوجب التصدي لها وفضح القبيح منها، ورسميّة محيبس لم تكن إلّا ذلك الصوت الفاضح للتردي الضارب باطنابه في مفاصل زمننا المحاصر بالأزمات والحروب والدماء
، ومنذ أن تعرّفت على متنها الشعري لم أجد في نصوصها غير الجرأة والصدق والمتعة التي أصبحت وما زالت من سماتها الشعرية الراقية، وهي بهذا تحقق حضورها اللافت منذ مجموعتها الأولى الى (طلقة أنثى) التي توفر للقارئ المنتج فسحة من الطاقة في التمازج معها وتمنحه حرية مطلقة في استكناه نصوصها وتأويلها بما قد لا يتطابق مع رؤية رسمية محيبس كصانعة ماهرة لنصوصها المعبرة عن تجربة نابضة بالتفاعل الخلاق والتأثير المتبادل مع متلقيها، وأول ما يلفت الانتباه في هذه المجموعة عنوانها الإشكالي المستفز ((طلقة أنثى)) التي أعادت الى الأذهان حضور عنوان مجموعتها التي صدرت قبل سنتين بعنوان ((شغب أنثوي)) وما رافقها من الاصداء والكتابات المرحبة بصدورها ومتونها، ويبدو ان رسمية محيبس ماضية في توكيد جنوستها الانثوية، فالطلقة أنثى ورسمية امرأة عراقية من الشطرة نالت من الظلم الاجتماعي كغيرها من اناث مجتمعنا، ولكنها لم تتمكن إلّا بالشعر من مقاومة ظالميها فكانت (طلقة انثى) التعبير المجازي عن قوة الارادة والثقة بالنفس على اثبات كينونتها الانسانية في مجتمع ذكوري مستبد، ومن هنا وازاء هذا التقويل والتأويل لنصوص رسمية محيبس أجد أنّها حققت وجودها وقدمت لقارئها ما يؤكد انسانيتها عبر هذه نصوص (طلقة أنثى) التي تفيض شعراً نابضاً ومعبراً عن حياة مليئة بالصبر والأمل, ولأنّ رسمية تقول وتفصح عن هويتها وانتمائها 
فهي توضح وتستثمر وجودها الانساني الممتد في جنوبها المتخم بالأساطير والقصص المثيرة ((أنا شاعرة الجنوب/ نشأت على ضفة نهر من القصائد / يُدعى الغراف / لهذا يترقرق الماء / من حروف قصيدتي / كلما جنَّ الليل / فتحت نوافذي / ودعوت الظلام صديقي / الى سهرة ممتعة / ... / أقول :/ أنت كتاب عظيم يا صديقي / ويقول انتِ قارئة جيدة / لما بين السطور / ص 5، 6.
 إذن فهذه هي رسمية محيبس الشاعرة التي تطلق على نفسها (شاعرة الجنوب) وهي كذلك كما أرى لتفرّدها ومثابرتها واقترابها من هموم ناسها ومخاطبتهم بلغة شفيفة متداولة من قاموسهم اليومي الثري بالمعاني والدلالات ... في (طلقة أنثى) 49 نصاً أغلبها من نصوصها القصيرة، ولم يكن من بين عنواناتها نصاً باسم (طلقة أنثى) بمعنى ان جميع هذه النصوص هي (طلقات) اجتمعت في طلقة نافذة فأصبحت عنواناً دالاً وموحياً وملخصاً لمتن بقية نصوص المجموعة المميزة والتي من بينها (قصائد) ص 43، إذ تقول رسمية في (2) :
              رسائل الحب القديمة
             تبدو أشــــبه بجثث
            لا تليق بها سوى النار
            على طريقة الهنود
             حين يحتفون بموتاهم
وفي نص (3):
             كلما أردت كتابة قصيدة 
            تحوّل دمي الى جمر 
            وركض القلم الى أصابعي
             مهلاً سأكون على وضوء
            فأنا في حضرته      .... ص 44
وهكذا هي نصوص (طلقة أنثى) مستلة من حياة رسمية ومكابداتها، وهذا برأيي المتواضع من أنبل الشعر وأجمل مقاصده فهو يخاطب الناس جميعاً بعبارات من نسخ الحياة اليومية ولا يستحضر لغة القواميس وتصحّر مفرداتها، وبذلك تتألق رسمية محيبس فيما تنتج من نصوص تحسّ من خلالها بنبض الروح الإنسانية وتجلياتها ومن نصوص (طلقة أنثى) الباذخة نص (شاعر دون قصيدة) الذي 
يقول:
كحديقة بلا زهرة / كلاهما عاطل عن انتاج الجمال / كلما تكالبت عليّ الهموم / لذتُ بالشعر / كما تلوذ حمامة خائفة / بشجرة عملاقة / 
ص 113 . 
إنّ رسمية محيبس بهذا النص الدال تجد خلاصها في الشعر والشعر وحده عندما تتكالب عليها هموم الحياة وذكريات الزمن الغابر، وبذلك فإنّ المنتجة هنا كائن فاعل في إعادة صياغة الحلم الانساني وردم فجوات القبح التي تلوث معانيه 
الجميلة.